أخيراً أصدر أحد البنوك الكبرى في الولايات المتحدة عملته المشفّرة الخاصة! البنك هو جي بي مورغان تشايس J.P. Morgan Chase.

بنك جي بي مورغان تشايس عبارة عن مؤسسة إقراض تتولى نقل أكثر من 6 تريليون دولار أميركي من جميع أنحاء العالم كل يوم لصالح الشركات؛ في حركة كبرى للمدفوعات بالجملة. ومن المقرر أن تبدأ في غضون أشهر قليلة تجارب تحويل جزء ضئيل للغاية من تلك المدفوعات باستخدام عملة الجي بي إم (JPM)؛ وهي عملة مشفّرة رقمية طوّرها مهندسون داخل المقر الرئيسي للبنك في مدينة نيويورك الأميركية بهدف تسوية المدفوعات بين العملاء فورياً.

إذ إنَّ بنك جي بي مورغان يُعدّ لمستقبل تنتقل فيه بعض أجزاء الركيزة الأساسية للرأسمالية العالمية، من المدفوعات العابرة للحدود إلى سندات الدين التي تصدرها الشركات، إلى تقنية البلوكتشين: وهي تقنية لقواعد البيانات اكتسبت شهرةً بفضل استخدامها للمرة الأولى في عملة بتكوين (BTC). ولكي يتحقق ذلك المستقبل فعلاً، تعيَّن على البنك استحداث طريقة لتحويل الأموال بالسرعة الخارقة التي تُوفرها تقنية العقود الذكية، بدلاً من الاعتماد على تقنيات قديمة مثل الحوالات المصرفية.

في هذا الصدد، قال عمر فاروق، رئيس مشروعات البلوكتشين لدى بنك جي بي مورغان: “إذا كان هناك أي شيء في العالم حالياً يمكن نقله إلى سلسلة البلوكتشين، فهو جزء المدفوعات من تلك المعاملات. بصراحة، الاستخدامات لا حصر لها: أي معاملات تستخدم تقنية السجلات الموزّعة ولها علاقة بالشركات والمؤسسات يمكن أن تستخدم هذه التقنية”.

قد ينظر البعض للعملة المشفّرة الجديدة من جي بي مورغان على أنَّها تطوّر غير متوقع لتقنية ظهرت من بقايا الأزمة المالية كان من المفترض أن يُحدث اضطراباً داخل العالم المصرفي القائم حالياً.

وبعد اختبار التقنية في المدفوعات الدولية، سوف يصبح هذا الاستخدام واحداً من الاستخدامات الفعلية الأولى للعملات المشفّرة في قطاع الخدمات المصرفية؛ لا سيما وأنَّ البنك لطالما تحاشى هذه الفئة من الأصول في أغلب الأحيان باعتبارها فئة عالية المخاطر: ففي العام الماضي، 2018، حظر بنك جي بي مورغان ومؤسستا إقراض أُخريان عمليات الشراء بعملة بتكوين من جانب عملاء البطاقات الائتمانية. كذلك، أفادت تقارير أنًّ بنك غولدمان ساكس Goldman Sachs قرر تأجيل مخططاته لإنشاء مكتب للتداول بعملة بتكوين بعد دراسة الفكرة.

ديمون يهاجم البتكوين

قد يستغل حاملو العملات المشفّرة خبر إصدار مؤسسة مالية كبرى لعملتها المشفّرة الخاصة كفرصة لرفع قيمة هذه الفئة من الأصول. أمّا المستثمرون الأفراد، فلن يستنى لهم امتلاك عملة جي بي كوين على الأرجح: بخلاف البتكوين، وحدها الجهات المؤسسية الكبرى من عملاء بنك جي بي مورغان، مثل الشركات والبنوك والوسطاء التجّار، التي خضعت لفحوصات تنظيمية سوف يكون بمقدورها استخدام التوكن الجديد.

هناك اختلافات رئيسية أخرى بين العملة المشفّرة الخاصة ببنك جي بي مورغان وعملة البتكوين، التي كان المدير التنفيذي للبنك جيمي ديمون قد انتقدها بلا هوادة ووصفها بأنَّها وسيلة للاحتيال، لن تجعل النهاية سعيدة للمستثمرين بعملة البنك. (للتوضيح، لطالما صرّح ديمون ومديروه بأنَّ تقنية البلوكتشين، والعملات المشفّرة الخاضعة للتنظيم أيضاً، تنطوي على إمكانيات واعدة).

تجدر الإشارة إلى أنَّ كل عملة جي بي إم كوين تساوي واحد دولار أميركي، ومن المفترض أن تظل قيمتها ثابتة؛ أي أنَّها تشبه في مفهومها ما يُسمى بـ”العملات المستقرة”، على أن تصدر العملات المشفّرة لعملاء البنك بعد إيداع ما يساويها بالدولارات الأميركية. وبعد استخدام التوكن للدفع أو الشراء الآمن عبر سلسلة البلوكتشين، سوف يُدمّر البنك العملات المشفّرة ويردّ للعملاء مُكافئها بالدولار الأميركي.

التسوية الفورية للمعاملات المالية

وفقاً لفاروق، هناك ثلاثة استخدامات مبكرة لعملة جي بي إم كوين.

بحسب فاروق، يتمثل الاستخدام الأول في المدفوعات الدولية لعملاء البنك من الشركات الكبرى، التي تتم حالياً باستخدام الحوالات المصرفية بين المؤسسات المالية عبر شبكات عمرها عشرات السنين مثل نظام سويفت Swift. هكذا، بدلاً من أن تستغرق تسوية المعاملات المالية أكثر من يوم واحد بسبب اعتماد المؤسسات المختلفة موعد نهائي لإتمام المعاملات المالية واختلاف الأنظمة المعمول بها لدى البلدان المختلفة، سوف تتم تسوية المدفوعات فورياً في أي وقت من اليوم.   

بينما يتمثل الاستخدام الثاني في معاملات الأوراق المالية. يُذكر أنَّ بنك جي بي مورغان كان قد اختبر إصدار سندات الدين على البلوكتشين في شهر أبريل/ نيسان الماضي، 2018، بأن أنشأ محاكاة افتراضية لشهادة إيداع بقيمة 150 مليون دولار أميركي في أحد البنوك الكندية. بذلك، بدلاً من الاعتماد على الحوالات المصرفية لشراء السندات المُصدَرة (الأمر الذي يؤدي إلى وجود فجوة زمنية بين تسوية المعاملة والحصول على مقابلها)، أصبح بإمكان جهات الاستثمار المؤسسية الاستعانة بتوكن جي بي إم لتسوية المعاملات فورياً.

أمّا الاستخدام الأخير، فيتمثل في استخدام الشركات العملاقة لخدمات الخزينة التي يُقدّمها بنك جي بي مورغان لكي تحل محل الدولارات التي يستثمرونها في الشركات التابعة لهم بجميع أنحاء العالم. هذه الخدمات غير متاحة للعملاء الأفراد، وتُعالج شريحة كبيرة من تدفقات الأموال الخاضعة للتنظيم في العالم نيابةً عن شركات كثيرة، من مجموعة شركات هانيويل الدولية Honeywell International إلى شركة فيسبوك Facebook، من خلال نقل الأموال المخصصة لأنشطة مثل دفع مستحقات الموظفين والموّردين. وقد حققت هذه الخدمات إيرادات للبنك بلغت 9 مليارات دولار أميركي في العام الماضي، 2018.

صرّح فاروق قائلاً: “في الشركات الكبرى، تتأرجح الأموال جيئة وذهاباً على مستوى العالم؛ فهل هناك طريقة تضمن الشركات التابعة بها تمثيل المبالغ الواردة في ميزانيتها العمومية دون أن تضطر فعلياً إلى تحويلها مصرفياً إلى الوحدة المطلوبة؟ بهذه الطريقة، يمكن لتلك الشركات أن تدمج أموالها معاً، وربما تحصل على أسعار أفضل للفائدة عليها أيضاً”.

وإذا نظرنا إلى أبعد من ذلك، وفقاً لفاروق، يمكن استخدام عملة جي بي إم كوين في عمليات الدفع عبر الأجهزة المتصلة بشبكة الإنترنت؛ في حال لاقى ذلك الاستخدام لتقنية البلوكتشين رواجاً.

من جهته، يُراهن بنك جي بي مورغان بأنَّ مكانته بصفته المُحرك الأول في سوق مدفوعات الشركات، وحصته الكبيرة في تلك السوق (فهو البنك الذي تعتمد عليه 80 بالمائة من الشركات المُصنّفة ضمن قائمة فورتشن فايف هاندرد Fortune 500)، سوف تزيد من فرص تبني التقنية التي طوّرها، حتى ولو أصدرت البنوك الأخرى عملات مشفّرة خاصة بها.

قال فاروق: “كل الشركات الكبرى تقريباً من عملائنا، بل وأغلب البنوك الكبرى في العالم أيضاً. لذلك، حتى وإن كان إصدار العملة المشفّرة مُقتصراً على عملاء جي بي إم JPM من الجهات المؤسسية، فإنَّ ذلك لن يُمثل عائقاً على الأرجح”.