منذ عدة أشهر، أثارت منصة جيميني Gemini لتداول العملات المشفرة جدلاً كبيراً عندما أعلنت أنَّها، بعد الحصول على إذن من دائرة الخدمات المالية في نيويورك، أطلقت “عملة مستقرة” مشفرة، ترتبط قيمتها بالدولار الأميركي، ومن شأنها أن تمنح المداولين والمؤسسات عملةً “منظمة” بديلة عن عملة التيثر، التي كانت في كثير من الأحيان موضع جدل هي الأخرى، مع أنَّ قيمتها السوقية تبلغ مليارات الدولارات، وتتمتع بثاني أعلى حجم تداول يومي بين جميع العملات المشفرة.
وفي ذلك اليوم نفسه، أعلنت شركة باكسوس Paxos الاستثمارية، وهي شركة مماثلة مقرها نيويورك، أنَّها حصلت أيضاً على موافقة دائرة الخدمات المالية لإطلاق عملة مستقرة تسمى الباكسوس ستاندرد (PAX). لم يكن مفاجئاً أن تلقى الباكسوس اهتماماً أولياً أقل بكثير من الجيميني دولار، نظراً إلى أنَّ الأخيرة تمتعت بزخم إعلامي هائل، فيما لم تكن الأولى -مع أنَّ لها دور مهم في السوق المهنية لتداول العملات المشفرة- معروفة بما يكفي بين المستثمرين الأفراد.
مأزق التيثر
وقال ديفيد ويلز، المدير العام لشركة باكسوس، لموقع سي سي إن CCN إنَّ الشركة بدأت جدياً في مناقشة إطلاق عملة مستقرة في أوائل 2018 بعدما -تماماً كجيميني- لاحظوا مقدار الطلب في السوق على عملة مشفرة مرتبطة القيمة بإحدى العملات النقدية وتعمل في الوقت ذاته داخل إطار تنظيمي قوي، أي عملة بديلة للتيثر.
لقد سيطرت التيثر منذ فترة طويلة على عالم العملات التي ترتبط بالعملات النقدية، إذ مثلت 98% أو أكثر من حجم التداول اليومي للعملات المستقرة. فالتوكن المشفر، الذي تبلغ قيمته السوقية حالياً 1.8 مليار دولار، واقترب ذات مرة من 3 مليارات دولار، يعتبره البعض خطراً شاملاً على سوق التشفير، نظراً لأنَّ له دوراً بارزاً في اكتشاف سعر البتكوين، في الوقت الذي تستمد فيه جميع العملات المشفرة الأخرى تقريباً قيمتها من البتكوين في واقع الأمر.
قد يكون توكن التيثر هو أكثر أصول العملات المشفرة إثارة للجدل، ويتفوق حتى على العملات دائمة الاضطراب مثل الريبل (XPR)، والإيوس (EOS)، والأيوتا (IOTA)، والترون (XRX)، وأي توكن خاضع لعرض أولي يروج له رائد البرمجة الحاسوبية، جون مكافي، في الوقت الحالي. وتنازع المستثمرون، وغير المستثمرين في البتكوين، والأكاديميون، على حد سواء حول ما إن كانت شركة تيثر ومنصة بتفينكس Bitfinex لتداول العملات المشفرة -لدى الشركتان فريق إداري مشترك- تديران احتياطياً جزئياً، وتستخدمان توكنات غير مسجلة لتضخيم سعر البتكوين ومنعها من الهبوط دون مستويات الدعم الرئيسية.
وقد فتحت كل من لجنة تداول السلع الآجلة الأميركية ووزارة العدل تحقيقات حول ما إن كانت شركة تيثر وبتفينكس قد انخرطتا في أنشطة غير قانونية، مع أنَّه حتى وقت كتابة هذا التقرير، لم تُعلن أي إجراءات إنفاذية.
ظهور عملات مستقرة بديلة
تشرف دائرة الخدمات المالية في نيويورك، التي أصدرت ترخيص بتلايسنس Bitlicense، على ما يمكن القول بأنَّه الإطار التنظيمي الأكثر صرامة في الولايات المتحدة الذي تخضع له شركات العملات المشفرة، وقال ويلز إنَّه كان هناك “الكثير من الأخذ والرد” والدورات التعليمية قبل أن تسمح لهم الدائرة بالبدء في رقمنة الدولارات، وأضاف أنَّهم “رأوا أنَّ هناك حاجة إلى وجود عملة مستقرة منظمَّة في السوق”.
لكن ما الذي يجعل هذه التوكنات “أكثر تنظيماً” من غيرها؟ أولاً، يجب على جهات الإصدار مثل الباكسوس والجيميني المشارَكة بصورة أقوى في حفظ السجلات والمراقبة. ثانياً، يجب أن تتبنى كل منها “ضوابط قائمة على تقويم المخاطر” لمنع استخدام التوكنات كوسائل لغسل الأموال أو غير ذلك من الممارسات غير القانونية، التي تشتمل عموماً على تمكين الحساب المُصدر من تجميد أرصدة المستخدمين وإلغاء التوكنات المرتبطة بالأنشطة الإجرامية.
وبالطبع ليست جيميني وباكسوس الشركتين الوحيدتين اللتين تسعيان إلى التخلص من التيثر. وصلت القيمة السوقية لعملة الترو يو إس دي (TUSD) التي أصدرتها شركة تراست توكن TrustToken في وقت سابق من هذا العام، إلى 182 مليون دولار، مما يجعلها ثاني أكبر عملة مستقرة في تاريخ كتابة هذا التقرير. فيما تحتل كوين الدولار الأميركي (USDC)، التي أُصدرت بعد وقت قصير من عملتي الجيميني والباكسوس، المركز الثالث بقيمة تصل إلى 169 مليون دولار.
هناك أيضاً عملات مستقرة خوارزمية أو تتبع نمط سك العملات مثل داي وبيسيس، وهي ليست مدعومة حصراً باحتياطات نقدية، لكنَّها قد تكون متضمَّنة كلياً أو جزئياً في أصول أخرى. تُبرمج العقود الذكية التي تدير هذه التوكنات بطريقة تسمح لها بأن تتحكم تلقائياً في العرض بناءً على طلب السوق، وزيادة العرض عندما يهدد الطلب بدفع سعره فوق قيمة الربط، وإزالة التوكنات من التداول عند حدوث العكس.
الباكس وكوين الدولار الأميركي تتصارعان للتربع على عرش العملات المستقرة
بينما تحافظ عملة الترو يو إس دي على ميزة كونها صاحبة الانطلاقة الأولى، يبدو باستمرار أنَّ السعي إلى استبدال التيثر أصبح سباقاً بين متسابقين لا أكثر: الباكس وكوين الدولار الأميركي، اللتين تقترب قيمتهما من قيمة الترو يو إس دي بسرعة مذهلة، تاركين الجيميني في الغبار.
جدير بالذكر أنَّ عملة كوين الدولار الأميركي تدعمها واحدة من أهم الشركات في مجال العملات المشفرة، على العكس من الباكسوس ستاندرد. تتشارك كوين بيس Coinbase، إلى جانب سيركل Circle (شركة خاصة تبلغ قيمتها أكثر من مليار دولار) في إصدار كوين الدولار الأميركي، وكلاهما أعضاء مؤسسين في جمعية سنتر CENTRE، التي تدير عمليات تطوير كوين الدولار الأميركي وعروض العملات المستقرة المستقبلية. وهذا يعني أنَّ كوين الدولار الأميركي تُدرج مباشرة على منصة كوين بيس، مما يتيح لعشرات الملايين من المستخدمين في الشركة التحويل بسهولة بين التوكن والعملة النقدية دون الحاجة إلى فتح أي حسابات جديدة.
لكن في الوقت الذي تواصل فيه التيثر الهيمنة على سوق تداول العملات المستقرة، تعد الباكس الرائدة الأولى بين منافسيها الناشئين -بما في ذلك كوين الدولار الأميركي- فهي تتفوق باستمرار على نظيراتها من ناحية متوسط حجم التداول اليومي وسرعة المال، أي النسبة بين حجم التداول اليومي إلى القيمة السوقية.
وأوضح ويلز قائلاً إنَّ “أحد ما يميزنا هو أنَّه أثناء السنوات الخمس التي أدرنا فيها الشركة صار لنا وجود على الساحة العالمية”، مشيراً إلى أنَّ منصة التداول الخاصة بالشركة، التي تسمى إت بِت itBit، لها فروع في كل من نيويورك وسنغافورة. وأضاف أنَّ العلاقات مع صناع الأسواق الدولية والمنصات إلى جانب المكاتب المختصة بالصفقات خارج منصات التداول، قد ساعدت الباكس على تحفيز تأثير الشبكة، وتحقيق التبني السريع في المنصات العالمية.
وبالطبع، تقدم العملات المستقرة مزايا أخرى بخلاف معدلات التداول، إذ لفتت الجهات المصدرة إلى عدد من الاستخدامات المحتملة لهذه التوكنات، التي تتراوح بين تحسين كفاءة المدفوعات عبر الحدود المقيدة بقيمة العملات النقدية، إلى جعل رسوم التطبيقات اللامركزية أكثر اتساقاً. ومع ذلك، قال ويلز إنَّ استخدامات الباكس، على الأقل في الوقت الحالي، منحصرة داخل منصات تداول العملات المشفرة، سواء المنصات التقليدية، أو المكاتب المختصة بإتمام الصفقات خارج منصات التداول.
ووصفها ويلز بأنَّها “بديل جيد للعملات النقدية” مشيراً إلى أنَّ العملات المستقرة تسمح للمتداولين بتحويل الأموال بسرعة عبر المنصات دون التعرض لتقلبات الأسعار، حتى ولو مؤقتاً، وأضاف: “سمعنا من العديد من المتداولين الذين يتداولون عبر مختلف المنصات أنَّهم يفضلون الباكس على النقود”.
تقلصت الفجوة أثناء الأسبوعين الماضيين، مع العديد من التطورات التي منحت كوين الدولار الأميركي دفعة قوية. أولاً، أدرجت بَينانس Binance، وهي أكبر منصة لتداول العملات المشفرة في العالم، زوج تداول يضم البتكوين وكوين الدولار الأميركي، مما منح التوكن زيادة كبيرة في السيولة. ثانياً، أصبحت منصة التداول بولونيكس Poloniex، التي أطلقتها شركة سيركل، أول منصة تداول كبيرة تنشئ سوقاً للعقود الآجلة الخاص بالبتكوين كاش قبل خضوعها لعمليات الفورك. وأدرجت بولونيكس بشكل مثير للانتباه التوكنات التي لم تخضع بعد للفورك مقابل كوين الدولار الأميركي، متجاهلة التيثر، مما اضطر المتداولين إلى استخدام العملة المستقرة الخاصة بشركة سيركل إذا أرادوا استخدام الدولار الأمريكي -أو أي وسيط نقدي- للمقامرة على نتيجة عمليات الفورك التي تخضع لها البتكوين كاش.
ومع ذلك، تتمتع الباكس بميزة كبيرة، إذ فاق حجم تداولها الذي بلغ 305 ملايين دولار خلال 7 أيام حجم تداول كوين الدولار الأميركي الذي يبلغ 125 مليون دولار بأكثر من 140%، بالإضافة إلى تفوقه بنحو 10% على الترو يو إس دي، التي بلغ حجم تداولها 277 مليون دولار أمريكي.
لكنَّ هذه الإحصاءات لا تظهر فقط كيف حققت الباكس تقدماً على أقرانها، بل توضح كذلك حجم الجهد المطلوب لكي تصبح الباكس، أو أي عملة مستقرة مبتدئة أخرى، تهديداً حقيقياً للتيثر، التي ما يزال حجم تداولها الأسبوعي بقيمة 25 مليار دولار يفوق حجم التداولات الأسبوعية للباكس، وكوين الدولار الأميركي، الجيميني، والترو يو إس دي مجتمعةً، أكثر من 30 مرة.
إخلاء المسؤولية: الآراء والتحليلات والأخبار الواردة لا تعكس رأي بت شين. لا ينبغي اعتبار أي من المعلومات التي تقرأها على موقع بت شين بمثابة نصيحة استثمارية، ولا تصادق بت شين على أي مشروع قد يتم ذكره أو ربطه في هذه المقالة. يجب اعتبار شراء وتداول العملات المشفرة نشاطًا عالي المخاطر. ويرجى بذل المجهود الواجب قبل اتخاذ أي إجراء يتعلق بالمحتوى المذكور ضمن هذا التقرير. لا تتحمل بت شين أي مسؤولية في حالة خسارة الأموال في تداول العملات المشفرة.