كتبت أمبر كازيل، الحاصلة على الدكتوراه في علم النفس الاجتماعي والباحثة الزائرة بجامعة ستانفورد، مقالاً بموقع هاكر نون Hackernoon تتحدث فيه عن قدرة العملات المشفرة على تغيير وجه الاقتصاد.
تقول أمبر إن أصحاب رؤوس الأموال المخاطرة والخبراء المعنيون كثيراً ما ينتهزون كل فرصة متاحة لتوضيح أن علم الاقتصاد المشفر Cryptoeconomics وعلم الاقتصاد العادي ما هما إلا وجهان لعملة واحدة. وفقاً لهم، يرجع الفرق بين الاقتصادين إلى التطبيقات السلوكية ونظم المكافآت بالنسبة للعملات المشفرة.
وهذا هو السبب في رفع القبعة لعبقرية ساتوشي ناكاموتو، مخترع عملة البتكوين – مشيرين إلى قسم “المكافآت” من الورقة البيضاء للبتكوين التي نشرها ساتوشي، والذي يستشهد به الكثيرون. هذا القسم من الورقة البيضاء هو عبارة عن قسم وجيز من 236 كلمة فقط يتناول أساساً السبب الذي يدفع المستثمرين في البتكوين إلى الانضمام إلى هذه الشبكة من المستثمرين والمحافظة عليها؛ ألا وهو أنهم من الممكن أن يكسبوا العملات المشفرة، ويفرضوا رسوماً على المعاملات عند تعدينهم للبلوكات، وأنهم إن احتالوا على النظام فسوف يتسببون في إحباط قيمة العملات التي يمتلكونها.
ومع أن نظام المكافآت غير القائم على الثقة قد كان له دور في تبني عملة البتكوين بنجاح دون شك، يظل دور العملات المشفرة الأهم يمكن في التداعيات الاجتماعية والاقتصادية المقترنة بها. ولهذا السبب بالضبط لا يمكننا أن نتفق مع الرأي الزاعم بأن علم الاقتصاد هو ذاته بالنسبة لكلٍ من العملات النقدية والعملات المشفرة. صحيح أن المكافآت التي ذكرها ساتوشي في ورقته البيضاء مقنعة، لكنها ليست كافية. الحقيقة هي أن الإمكانيات الخفية للعملات المشفرة سوف تجعل الرأسمالية والاشتراكية تبدو مبادئ همجية غير متمدنة.
وتحد العملات المشفرة من الفساد الناتج عن وجود الوسطاء والمصالح الشخصية، لكنها لم تنجح في تحقيق المواءمة بين مكافآت جميع الأطراف المعنية الموجودة على الشبكة إلى الآن. وفي حين أن الرأسمالية تسعى إلى أن تكون مربحة للأطراف كافةً (إذ أنها تقوم على نظام دفع الأموال في مقابل شراء السلع)، تستمر البلوكتشين في تسجيل المعاملات بحيث يصبح مجموعها صفراً عن طريق خصم البتكوين (أو الدولار) من مفتاح خاص وإضافته إلى مفتاح خاص آخر، وإن كان من المستبعد أن تظل العملات المشفرة تعتمد على هذا النموذج الاقتصادي في المستقبل.
وكلما استمرت السجلات (البلوكتشين) في تسجيل تلك الخصومات، يفقد الأفراد قدرتهم على شراء سلع جديدة شيئاً فشيئاً. ألن يكون من الرائع إذن أن نتمكن من الحصول على السلع “مجاناً” وأن يحقق البائعون ثروةً من وراء بيع سلعهم مجاناً؟ يبدو هذا منافياً للعقل، أليس كذلك؟ المفارقة هي أن هذه الفكرة المنافية للعقل ستحصل لا محالة في رأيي.
تجدر الإشارة هنا إلى أن السجلات الموزعة مصممة لمتابعة الثروات النسبية. فقبل الاستعانة بالسجلات، كانت الثروات تُقاس بمزيج من سندات الدين والموارد الثمينة المحدودة (مثال على ذلك: الدولارات الأميركية المرتبطة بالذهب (قبل رفع الغطاء الذهبي)، أو الدولارات الأميركية بحد ذاتها في الوقت الراهن) لأن السلع كانت محدودة آنذاك. لكن هل لا يزال ذلك صحيحاً في الوقت الراهن؟ بالتأكيد، بعض السلع قد تظل نادرة حتى وإن أصبحنا قادرين على الاستفادة منها بكفاءة شديدة؛ لكن تلك السلع قد بدأت تصبح هي الاستثناء رويداً رويداً.
مما لا شك فيه أن المعلومات قد أصبحت ثروة في ظل عصر المعلومات الذي نعيش فيه. والمعلومات ببساطة ليست نادرة. على سبيل المثال، إذا كنت تلعب لعبة التخمين الشهيرة كلو Clue، وأعلنت للاعبين الآخرين بأن: “الأستاذ بلامب في المطبخ، وهو يمسك بشمعدان في يده”، ثم وجدت لاعباً آخر قد أبرز لك بطاقة الشمعدان، فلربما تكون قد حصلت بذلك على معلومة جديدة من فراغ، لكن اللاعب الآخر أيضاً لم يضحي بمعرفته ببطاقة الشمعدان فقط لكي يوصل إليك هذه المعلومة؛ إذ لا يوجد سجل يضمن أن ينسى حامل البطاقة الأصلي وجود الشمعدان، ولا نحن نريد ذلك، لأن لعبة الأدلة بأسرها تدور حول نقل المعلومات من لاعب إلى آخر إلى أن تصل المعلومات إلى كتلة حرجة تمكن أحد اللاعبين من معرفة القاتل، وتنتهي اللعبة.
ماذا المقصود من وراء ذلك المثال إذن؟ المقصود أنه قد حدث اختلاف بين طبيعة السلع الموجودة اليوم ووسيلة متابعة الثروات: فنحن عندما نشتري المعلومات، نتخلى عن مورد نادر (سواءً كان عملة نقدية أو البتكوين كما نعرفه حالياً) مقابل الحصول على مورد غير نادر؛ والمفاجأة أننا كبشر نعلم هذا ونمقته بشدة.
لهذا السبب بالضبط صارت ظاهرة القرصنة مشكلة مستفحلة: فحين يطالبك موقعا يوتيوب وأمازون بدفع 4 أو 5 دولارات أميركية مقابل مشاهدة فيلم ما، وأنت تعلم جيداً أن عملية صناعة الأفلام ليست سوى تكلفة غارقة (أي ان الاموال التي صرفت فى الانتاج لا يمكن استراجعها بأي شكل)، وأن خوادم موقع يوتيوب يمكنها توفير سعة نطاقية كافية لمشاهدة الأفلام مقابل أقل من دولار أميركي واحد بكثير، يثير الأمر سخطك للغاية: لأن عملية مشاهدة فرد واحد للفيلم (أي “المعلومات”) هي عملية قابلة للتكرار اللانهائي، لهذا يرى الناس في أكثر الأحيان أنه من غير المستساغ أن يتخلوا عن موارد محدودة في مقابل حرية الوصول إلى موارد غير محدودة.
ويتضح الاختلاف بين لا محدودية السلع الرقمية ومحدودية العملات النقدية في تدفقات العائدات الهائلة التي تحققها كبرى شركات المعلومات مثل شركتيّ غوغل (التي بلغت عائدتها 110 مليار دولار أميركي) وفيسبوك (بعائدات تبلغ 41 مليار دولار أميركي)، فقد تمكنت هاتان الشركتان من الاستحواذ على منتج قابل للتكرار اللانهائي (أي معلومات المستخدمين التي تهم المُعلنين) وتقاضي ثمنها في هيئة موارد محدودة (أي دولارات أميركية). تنجح الرأسمالية (أم قد صار نجاحها من الماضي؟) بسبب استحالة بيع السلعة ذاتها مرتين. أما في الوقت الراهن، فبات بإمكان شركة مثل غوغل بيع المعلومات ذاتها مراراً وتكراراً.
إن سر قوة العملات المشفرة هو أنها يمكن أن تصبح غير محدودة، في حين أنه لا توجد عملة نقدية واحدة متداولة في العالم بحاجة إلى أن تكرر نفسها من فراغ. مثال على ذلك: عندما يشاهد المرء فيلماً على الإنترنت عبر موقع يوتيوب، يمكن لسجل العملات المشفرة أن يضيف خمس نقاط إلى الموقع (مقابل أن الموقع قد أتاح إمكانية الوصول إلى معلومات مملوكة لهوليوود) دون خصم أي نقاط مطلقاً من المشاهد نفسه. من ثم، فإن سر قوة العملات المشفرة هي أنها قائمة على الإضافة فقط، مثلما أن لعبة الأدلة قائمة على الإضافة فقط. لكن هنا تزداد الأمور غرابة؛ إذ أن هذا ينعكس بدقة على السلع الموجودة اليوم أكثر مما ينعكس على الأنظمة المالية المرتكزة على الندرة التي ظللنا متمسكين بها على أي حال.
فقد أشار الباحث الأميركي في مجالات علم الاجتماع والاقتصاد، جيريمي ريفكين، إلى أن جدوى الناتج المحلي الإجمالي كمؤشر لقياس الثروة الوطنية الفعلية قد بدأت في التراجع في الآونة الأخيرة. لكن كيف يمكن لتحسّن مستوى المعيشة أن يفوق معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي؟ مرة أخرى، يعود هذا إلى الاختلاف بين العملات ذات المجموع الصفري وعمليات تبادل السلع غير ذات المجموع الصفري. يزعم ريفكين أن هذا الركود الذي يشهده الناتج المحلي الإجمالي “قد يكون في واقع الأمر مقياساً على تزايد أهمية اتباع نموذج اقتصادي قائم على قياس القيمة الاقتصادية بطرق جديدة للغاية”. فلينتبه مطوريّ العملات المشفرة إلى هذا الأمر لأنه في غاية الأهمية، وإليكم السبب.
ترجع أمبر إلى القول بأن العملات المشفرة قادرة على أن تجعل الرأسمالية والاشتراكية تبدو مبادئ همجية وغير متمدنة. ربما بدا ذلك متعجرفاً، على حد قولها، لكنها تمضي في تحليله للإجابة عن سؤال ما إذا كنّا فعلاً نعيش كهمج غير متمدنين كل ذلك الوقت.
تحكي أمبر أنها خرجت في يوم من الأيام من أحد متاجر سيف واي Safeway للتسوق، فرأت امرأة متشردة تجلس على الرصيف بدا أنها قد فارقت الحياة. فزعت أمبر واقتربت منها فوجدت أنها تسند رأسها على كيس نفايات صغير مملوء حتى آخره بما بدا أنه ملابس، لكن لم يكن معها أي شيء آخر. انتظرت أمبر بضعة لحظات، محاولة في يأس أن تميز ما إذا كانت المرأة تتنفس أم لا من صعود وهبوط قفصها الصدري. كان حاجبها يتصبب عرقاً، وكان بكاحلها تقرّح مفتوح ضخم، بعمق نحو ربع بوصة. وكانت نحيلة للغاية، ورائحتها كريهة، على حد وصف أمبر. وتساءلت، هل هذه هي رائحة تحلل جسدها؟ أم هي بحاجة إلى الاستحمام فحسب؟ وتعجبت من أن أحداً لم يتوقف سواها. وبعد أن فكرت ملياً لمدة عشرين ثانية تقريباً، انحنت وقربت وجهها من وجه المرأة. وسرعان ما سمعت صوت تنفسها: كان سريعاً وأشبه بالأزيز، وكانت تتنفس بصعوبة شديدة.
حينها شعرت أمبر بالارتياح الشديد والغثيان والشديد. وتُضيف أمبر إن المرء أحياناً يصادف متشردين دون أن يتأثر بهم إطلاقاً، وأحياناً أخرى يترك ذلك الشخص الذي تصادفه في الشارع أثراً عميقاً في قلبك يستحيل أن تنساه، فإذا بك تتذكره فجأةً دون مقدمات بعدها بأعوام وتتساءل ما إذا كان بخير. بعد ذلك، سارعت أمبر بالعودة إلى متجر التسوق لكي تشتري لهذه المرأة بعض الماء ووجبة مغذية على أمل أن يساعدها هذا قليلاً حين تستيقظ. وحين دخلت المتجر بهوائه المكيف ومنتجاته الوفيرة، وجدت ممرات المنتجات الغذائية مكدسة حتى آخرها بأكوام من الفيتامينات والمعادن اللذيذة الجاهزة للأكل. إذن لماذا لم تتمكن هذه المرأة من الحصول على التغذية السليمة التي هي في أمسّ الحاجة إليها بينما المسافة التي تفصلها عن كل هذه المنتجات الوفيرة ليست سوى 20 ياردة (18 متراً تقريباً)؟
السبب هو أن متجر التسوق يحتجز الموز رهينة! تعترف أمبر أن المزحة لا تناسب الموثق، لكنها تزعم أن هذا بالضبط هو ما يحدث، وأنه سخيف إلى حد ما: نصف المنتجات الغذائية المعروضة على رفوف متجر التسوق فقط يُستهلك. مع ذلك، يصر متجر التسوق على احتجاز الموز رهينة إلى أن يأتي من يدفع الفدية ويأخذه. لماذا؟ لأ الجميع (باستثناء العمل غير الهادف للربح) يحتجز السلع رهينة كي يسدد فدية المنازل والسيارات والأطعمة شهرياً.
ماذا كان ليحدث لو أن هذه المرأة المتشردة وُلدت في عالم ما بعد العملات المشفرة القائمة على الإضافة فقط؟ عندها ما كان متجر التسوق ليحتجز الموز رهينة لديه. بدلاً من ذلك، كانت المرأة المتشردة ستتمكن من الدخول إلى متجر التسوق وشراء الموز، وكان السجل المشفر سيضيف نقاط إلى رصيد متجر التسوق (دون أن يخصم أي نقاط من رصيد المرأة). بذلك، كانت المرأة ستتمكن من الحصول على الطعام، وكان متجر التسوق سيتمتع بسجل حافل بإنجازات توفير الثروة للعالم.
لكن ما الذي كان ليمنع المرأة من أخذ كل المعروض من المنتجات عندئذ؟ قد تتطلب بعض المنتجات إثبات أن الشخص قد “أعطى” للآخرين بالفعل. على سبيل المثال، قد تتطلب المنتجات الفاخرة إثبات أن الشخص يمتلك 100 نقطة كحد أدنى، في حين قد يتطلب الموز 0 نقطة. وفي تلك الحالة، إذا أخذت المرأة كل الموز المعروض، أي أكثر بكثير مما ستأكله، عندئذ يصبح لديها حافز كي تعطي باقي الموز للآخرين لكي تحصل على المزيد من النقاط (دون أن تأخذ أي نقاط من الآخرين). وما إن تجمع 100 نقطة، يصبح لديها الحد الأدنى من النقاط لشراء السلع الغذائية غير الأساسية، مثل المثلجات والجبن الفاخر وغيرها. بيت القصيد هو أن ما يُكافأ هو سلوك العطاء وليس سلوك الاكتناز و الإدخار.
نحن بالفعل على أعتاب عالم ما بعد الندرة، وقد حان الوقت لتبدأ العملات في تحقيق الغرض من ورائها. يمكننا أن ننجز أكثر من مجرد تحقيق المواءمة بين حوافز مُعدّنيّ البلوكتشين، بأن نحقق المواءمة بين مصالح الفقراء والمهمشين وحوافز الشركات العملاقة. دعونا نشجع توزيع السلع بدلاً من اكتنازها.
هذا هو سر العملات المشفرة: بوسعنا أن نتوقف عن احتجاز الموز والأفلام، واحتجاز الفقراء أسرى أجندتنا الاقتصادية أيضاً، إن شئنا؛ بل وسنزداد ثراءً من وراء ذلك أيضاً.
إخلاء المسؤولية: الآراء والتحليلات والأخبار الواردة لا تعكس رأي بت شين. لا ينبغي اعتبار أي من المعلومات التي تقرأها على موقع بت شين بمثابة نصيحة استثمارية، ولا تصادق بت شين على أي مشروع قد يتم ذكره أو ربطه في هذه المقالة. يجب اعتبار شراء وتداول العملات المشفرة نشاطًا عالي المخاطر. ويرجى بذل المجهود الواجب قبل اتخاذ أي إجراء يتعلق بالمحتوى المذكور ضمن هذا التقرير. لا تتحمل بت شين أي مسؤولية في حالة خسارة الأموال في تداول العملات المشفرة.