بغض النظر عن آراء الناس في منصة بينانس للتداول وفي رئيسها، تشانغبينغ جاو، إلا أن نجاح تلك المنصة لا يعد غير مسبوق فحسب، وإنما يعد سابقة في حد ذاته.

في رأيي، فإن بينانس تعد مثالاً ناجحاً لكيفية تأسيس وتنمية مشروع خاص بالعملات المشفرة، ويعد هذا النجاح مطلوباً بشدة في وسط صناعة يكثر فيها الحديث عن إمكانيات التكنولوجيا الخاصة بها ويقل فيها دراسة الإستراتيجيات الناجحة التي يجب اتباعها من أجل تحقيق إمكانيات تلك التكنولوجيا.

وبهذا الشأن، فإني أعتقد أن السوق قد بدأ في استيعاب مدى ألمعية بينانس وما الذي يعنيه نجاحها، بمعايير توقيت السوق وتأثير المنتج، بشأن ما نرغب جميعاً في العثور عليه: نموذج لبناء مشروع خاص بالعملات المشفرة ذا تأثير وقابلية لزيادة السعة.

وفي الوقت الذي تضطر فيه كثير من شركات العملات المشفرة الناشئة إلى تغيير نوع نشاطها أو تقليل عدد الموظفين، فإن بينانس تزداد نجاحاً، وتقدم منتجات مبتكرة وتدفع الصناعة كلها إلى الأمام بالطرق الصحيحة وفي الوقت الصحيح.

ويعد هذا النجاح أكثر تعقيداً مما يبدو عليه بسبب المصير الحدي لمشاريع سوق العملات المشفرة العملات المشفرة؛ إذ تأتي فرص النمو وتذهب سريعاً، كما أن الشركات الناشئة تغرق نفسها في التفكير بتفاصيل التنفيذ وتفشل في التأقلم مع المتغيرات اللاحقة.

ولكن بعد مراقبة بينانس لما يربو على العام، فمن الواضح أنه لم يسبق لأي مشروع أن استغل الطبيعة الحلقية لسوق العملات المشفرة بعيوبه ومميزاته.

تأسست بينانس في عام 2017، وبرغم قصر عمرها، إلا أنها قد تطورت بشكل معتبر وكاشف للتفكير السبّاق للشركة ولقيادتها.

وعلى مدار الـ 12 شهراً الماضيين، مرت بينانس بثلاثة أطوار:

1. قدمت تكنولوجيا تم تجربيها: منصة تداول عملات مشفرة مقابل عملات مشفرة تقدم خدمات بيع وشراء في 15 دولة، في الوقت الذي سنحت فيه ظروف السوق باجتذاب عدد ضخم من المستخدمين.

2. عندما بدأت السوق في الركود، وفقدت منصات التداول الأخرى زخمها المبدئي، فقد حفزت بينانس مستخدميها على استعمال منتجات مضيفة للقيمة، مثل منصة إطلاق بينانس، مما حفز مبيعات العملات المشفرة من خلال منصة التداول.

3. حالياً، ومع استثمارها في منصة التداول اللامركزية المرتقبة، فإنه من المحتمل أن تغير الشركة من نفسها بشكل قد يضيف مزيداً من الشرعية لصناعة العملات المشفرة.

دلاء من المطر

بالتركيز مع الفكرة الأخيرة، فمن الآمن أن نقول أن عالم العملات المشفرة به موسمين: الفيضان والجفاف.

ما يعجبني في هذا التشبيه هو أنه يقترح منطقه بشكل حسي. إذ توجد أوقات (المطر) يكون فيها اجتذاب مستخدمين جدد سهلاً (ويصبح عندها إنفاق المال من أجل اجتذاب المستخدمين أمراً مستحباً)، وتوجد أوقات أخرى (الجفاف) يصبح فعل ذلك فيها عديم الجدوى (عندما تصبح تكلفة استقطاب مستخدمين جدد عالية للغاية).

في حالة بينانس، فإن وقت إطلاقها، في منتصف صيف عام 2017، كان مثالياً. حيث ساعد ازدهار الصناعة في ذلك الوقت كافة المشاريع، وإن كان هذا يخفي حقيقة ما جرى.

بذل سي زد CZ، وهو أحد خبراء الصناعة، مجهوداً كبيراً عندما كان يعمل في مجال البلوكتشين والأوكيه كوين OKCoin، وهما قصتا نجاح استسلما بعد ذلك للتعب، واستطلع حظوظه، ثم قام بتنفيذ إستراتيجية ذكية للتوجه إلى السوق. ولأن سي زد قد قضى سنوات من عمره في بناء أنظمة تجارية (في مجال العملات المشفرة وخارجها) فقد استطاع جمع الأموال من خلال الطرح الأولي للعملة ونشر تكنولوجيا مجربة ميدانياً في وسط بيئة متعطشة لأصول بديلة (في الوقت الذي تقيدت معظم منصات التداول فيه بالتعامل بالدولار الأمريكي وبالقيود التنظيمية المترتبة على التعامل به).

هنا، اتخذ سي زد قرارين لم تتبد عبقريتهما إلا مؤخراً.

أولاً، لم يُسمح بإجراء الأعمال التجارية باستخدام العملات النقدية، مما سمح له بتجاوز كل التعقيدات التنظيمية المترتبة على استخدام تلك العملات. وثانياً، قام ببناء فريق يقدر على بناء البنية التحتية اللازمة لخدمة الطلب السوقي (عن طريق إضافة المزيد من أسواق العملات المشفرة بكفاءة).

بإضافة المزيد من أصول العملات المشفرة بسرعة مما سمح لعملائه بالاستثمار فيهم، فإن بينانس قد نجحت في اجتذاب 3 ملايين مستخدم في 6 أشهر فقط.

يمكن رؤية العكس التام لتلك السياسات في نموذج الأعمال الخاص بكوين بيس Coinbase. فبينما كان نمو منصة التداول الكائنة بسان فرانسيسكو مثيراً للإعجاب أكثر من بينانس (إذ تجاوز عدد عملائها 20 مليوناً في عام 2017) إلا أنه من الصعب القول بأنهم قد تطوروا.

ولمعظم الوقت في فقاعة عام 2017، انخرطت كوين بيس في بيع أصول تعد على أصابع اليد الواحدة (أربعة)، وانتفعت من موقعها كأسهل اختيار لتحويل العملات النقدية إلى عملات مشفرة بالنسبة للمستهلكين. لم تقم كوين بيس بإطلاق أصول جديدة إلا بعد عام 2018، وبعدما تباطأ معدل نمو قاعدة مستخدميها بشكل واضح، مع أن هذا التباطؤ تزامن مع تضاؤل اهتمام المستهلكين بشكل عام.

وكانت النتيجة النهائية، في الدورة الماضية، أن أصبحت كوين بيس مجرد محطة في الطريق لبينانس، بمعنى أن المستخدمين الذي استخدموا كوين بيس ومنصات التداول النقدية الأخرى قد أجبروا، نظراً لمحدودية الأصول الموجودة على تلك المنصات، على البحث عن بدائل أفضل.

وكانت تلك البدائل محدودة، وكان المنفذ منها بشكل جيد أقل فأقل.

بينانس بتكوين (BNB) الإعجازية

إن كان منع استخدام الدولار الأميركي في الإتجار يعد من قبيل الهرطقة، فإن سي زد لم يتوقف عند ذلك.

فقد فهم بشكل فطري أن منافسيه قد يستنسخوا الاستراتيجية نفسها التي اتبعها والمتعلقة بعرض الكثير من العملات المشفرة، وأنه سيحتاج إلى خدمة خاصة بمنصته لكي يحتفظ بولاء المستخدمين لها. وهنا أتى دور البينانس كوين (BNB).

بدت البينانس كوين في وقتها كحجة للطرح الأولي للعملة، إلا أنها أثبتت فيما بعد أنها كانت حلاً عبقرياً لتشجيع الاستمرار في استخدام المنصة.

فعن طريق تزويد المتاجرين بفرصة للمضاربة على توكن موجود في السوق العام، وعن طريق السماح بإمكانية دفع رسوم منصة التداول باستخدام تلك العملة، فإن بينانس قد نجحت في صناعة دائرة محصنة لتحفيز مستخدميها للبقاء على منصتها.

تملك البينانس كوين حصة سوقية هائلة تقدر بـ 2.3 بليون دولاراً أميركياً وقت كتابة المقال، وهو الرقم الذي يشهد تزايداً غير دورياً في سوق راكدة.

(ملحوظة: ليس المقصود بهذا الكلام أن يكون حجة لصالح التقييم الحالي للبينانس كوين، أو تحليلاً لما يجب أو يمكن أن تكون عليه، وإنما يقصد بهذا الكلام أن يكون اعترافاً بأن البينانس كوين اختراع يجب على السوق أن يقدره).

ولم تكتف بينانس بتلك الأمجاد، إذ قامت بصناعة شبكة من المنتجات الإضافية المتمحورة حول البينانس كوين، مثل “منصة الإطلاق” وهي الخدمة التي تقوم بالطرح الأولي للعملات ويتم الدفع فيها باستخدام البينانس كوين، مما ساعد وحفز نظامها الإيكولوجي (إن كنت غير مقتنع أن ذلك مثير للإعجاب، فكل ما عليك فعله هو أن تذكر نفسك أننا بصدد الحديث عن شركة، برغم موظفيها الذين يزيدون عن ثلاثمئة، إلا أنها لم تفقد زخمها).

ومع تناسق المحفزات مع بعضها البعض، فإن العديد من منصات التداول الأخرى سارعت باستنساخ نموذج عمل منصة بينانس، مثل منصة هوبي Huobi، وأوكيه كوين، والعديد من منصات التداول الأصغر حجماً.

أن يصبح ما فعلته بينانس هو نموذج العمل السائد لمشاريع منصات التداول هو أمر مفروغ منه. هل من الممكن لأي منصة تداول عملات مشفرة ألا تدرس ما حدث هنا وأن تفكر فيما يعنيه ذلك بالنسبة لهم؟

أشك في ذلك، نظراً لإلحاح الحاجة إلى تلك الحلول في أوساط منصات التداول.

فعلى سبيل المثال، فإن منصة كراكن Kraken قد جمعت 100 مليون دولار أمييكي، والتي حصدتها في آخر جولات التمويل، من مستخدميها. بناءاً على الاعتقاد أن هؤلاء الذي سيستثمرون في مستقبل المنصة، سيستمرون على الأرجح في استخدامها، مما سيساعد على استمرار السيولة، وتوفير تغذية مرتجعة بشأن منتجاتها بالإضافة إلى العديد من المدخلات القيمة.

تبدو الرسالة واضحة: منصات تداول العملات المشفرة، والتي تعد أكبر وأضخم المشاريع المدرة للدخل في الصناعة، تواجه مشكلة كبيرة، وهم على استعداد لتجربة أي حل ممكن من أجل الحفاظ على المستخدمين. ويبدو أن بينانس لم تتوقع وجود المشكلة فحسب، بل وأوجدت لها حلاً.

مستقبل طموح

إذن، ما الذي يحمله المستقبل لمنصة التداول؟ هل ستظل معتمدة على أمجادها الحالية لحين الطرح الأولي العام؟ لا يبدو الأمر كذلك.

إذ يبدو أن بينانس تخطط لإطلاق منصة تداول من العملات النقدية إلى العملات المشفرة في سنغافورة، وهي الخطوة التي ستضعها، أخيراً، تحت طائلة القوانين. سيكون متوقعاً أن نرى المدير التنفيذي للشركة يفتخر بهذا النجاح على تويتر، أليس كذلك؟

إلا أن اتباع التقاليد لا يبدو من أولويات سي زد هذه الأيام. ففيما يبدو أنه أكبر التحولات درامية، فإن بينانس تعمل بكد من أجل إطلاق منصتها اللامركزية، بينانس دي إي إكس Binance DEX، حيث قامت بالفعل بتنصيب الشبكة التجريبية في فبراير/شباط الماضي.

وتعد منصات التداول اللامركزية من أحدث التكنولوجيات، إذ تمكن المستخدمين من الإتجار في العملات المشفرة بنظام النظير-للنظير من خلال بروتوكول للبلوكتشين، دون الحاجة إلى دعم أي مزود خدمة مثل بينانس. ولم يحدث من قبل أن تم تطبيقها على نطاق واسع، وسيتضح مع الوقت التحديات التي سيواجهها تنفيذها.

من المفترض أن يجبر تبني بينانس لهذا الاتجاه السوق على التوقف والتفكير ملياً، إذ يختلف قرار بينانس عن توجهات معظم منصات التداول الكبرى.

ففي الوقت الذي ينضم فيه محترفي وول ستريت Wall Street إلى منصات التداول التي تقبل أموال شركات استثمار رأس المال بنية مغازلة رؤوس الأموال المؤسسية، فإن بينانس، على ما يبدو، ترى فائدة أكبر في بناء الجيل التالي من المنتج الذي بنته: أحدث التكنولوجيات التي يمكن أن تطبق على نطاق واسع للاستهلاك العام على مستوى العالم.

وبشكل حرج، فإن افتقار بينانس لتمويل شركات استثمار رأس المال، والحرية التي يترتب عليها ذلك، يعني أنها في مكان أفضل من غيرها لكي تذهب بفكرتها الخاصة بمنصة التداول اللامركزية إلى نهايتها الطبيعية والمتطرفة: تسليم إدارتها بشكل كامل إلى مستخدمي شبكة بينانس كوين.

وعن طريق تحويل نفسها بنفسها، فإن بينانس قد ينتهي بها الحال لأن تصبح أكثر إبداعاً من مجرد كونها منصة (سواء كانت لامركزية أو لا)، إستراتيجية خروج فعالة، ومبنية بالكامل على العملات المشفرة.

وفي هذه الحالة، فإن قصة بينانس قد توفر ذات يوم بديلاً لسردية سيليكون فالي Silicon Valley القائلة بأن الشركات يجب أن ترعى نمو قاعدة مستخدميها فقط لكي تستطيع الوصول إلى خروج تقليدي عن طريق الطرح العام للأسهم.

هل هذه قراءة مبالغ فيها لبينانس؟ ربما.

ولكن بعد نجاح الشركة في حصد تلك النجاحات، فإن سؤالاً قد يبقى مطروحاً: من بالتحديد يراهن ضد بينانس؟

إخلاء المسؤولية: الآراء والتحليلات والأخبار الواردة لا تعكس رأي بت شين. لا ينبغي اعتبار أي من المعلومات التي تقرأها على موقع بت شين بمثابة نصيحة استثمارية، ولا تصادق بت شين على أي مشروع قد يتم ذكره أو ربطه في هذه المقالة. يجب اعتبار شراء وتداول العملات المشفرة نشاطًا عالي المخاطر. ويرجى بذل المجهود الواجب قبل اتخاذ أي إجراء يتعلق بالمحتوى المذكور ضمن هذا التقرير. لا تتحمل بت شين أي مسؤولية في حالة خسارة الأموال في تداول العملات المشفرة.