في السنوات الأخيرة، تَشَبَّعت عوالم الاستثمار والتكنولوجيا بالعملات المُشَفَّرة وتطبيقات البلوكتشين والمشاريع المرتبطة بها. ورغم الموجة المتناوبة للعملات الرقمية الجديدة التي غَيَّرت ملامح السوق، احتفظت عملةٌ رقميةٌ واحدةٌ باهتمام العامة أكثر من غيرها: البتكوين (BTC). وتُعتبر البتكوين بمثابة العملة المُشَفَّرة الأصلية من وجهة نظر الكثير من المستثمرين. وإثر إطلاقها عام 2009 من قِبَل مُبَرمِجٍ (أو ربما مجموعةٍ من المُبرمجين) يحمل الاسم المُستعار ساتوشي ناكاموتو، أعلنت البتكوين عن بداية عصرٍ جديدٍ من تكنولوجيا البلوكتشين والعملات الرقمية اللامركزية. وتصف ورقة ساتوشي البيضاء للبتكوين أيضاً مفهوم تكنولوجيا البلوكتشين للمرة الأولى، قائلةً إن: “الشبكة تضع الطوابع الزمنية على المعاملات عن طريق تشفيرها داخل سلسلةٍ جاريةٍ من إثباتات العمل (PoW) المُعتمدة على الهاش، لتُشَكِّل معاً سجلاً يستحيل تغييره دون تكرار إثبات العمل”. ورغم اليقين بأن البتكوين أحدثت تأثيراً ثورياً في مجال العملات المُشَفَّرة (حتى كتابة هذه السطور، أنتجت البتكوين عشرات الفوركات والمُحاكيات، لتظل العملة المشفرة رقم واحد على مستوى العالم من حيث رأس مال السوق وعددٍ من المقاييس الأخرى)، لكن هل هي حقاً العُملة المُشَفَّرةُ الأولى؟

المُحاولات المُبكِّرة في هولندا

وفقاً لتقريرٍ أوردته مجلة بتكوين Bitcoin Magazine، ترجع أبكر محاولات إصدار عملةٍ مُشَفَّرةٍ إلى تاريخٍ يسبق ظهور البتكوين بقرابة الـ20 عاماً. إذ عانت محطات الوقود في هولندا من السرقات الليلية. وعوضاً عن نشر الحراس والمخاطرة بسلامتهم، حاول مجموعةٌ من مُطوِّري البرامج ربط الأموال ببطاقاتٍ ذكيةٍ مُصَمَّمَةٍ حديثاً. ويَتَعَيَّن على سائقي الشاحنات الذين يدخلون المحطات حَمْلُ تلك البطاقات بدلاً من النقود، وحينها لن تحتوي المحطات على سيولةٍ نقدية. وربما كان ذلك هو أقدم مثالٍ على وجود النقود الإلكترونية، التي ترتبط بالعملات المشفرة كما نعرفها اليوم.

النقود العمياء

وفي نفس الوقت أو أبكر تقريباً، جرَّب ديفيد تشاوم، عالم التشفير، حظه مع شكلٍ آخر من أشكال النقود الإلكترونية. إذ وضع مفهوم عملة توكن يُمكن تداولها بين الأفراد بأمانٍ وخصوصية؛ وللمرة الثانية، تتشابه تلك العملة مع العملات المُشَفَّرَةِ في العصر الحديث تشابهاً صادماً. وطَوَّر تشاوم ما يُدعى بـ”صيغة التَعْمِيَة” من أجل استخدامها في تشفير المعلومات المتداولة بين الأفراد. وبهذه الطريقة يُمكن تداول “النقود العمياء” -التي تحمل توقيع الأصالة ويُمكن تعديلها دون تَعَقُّب- بين الأفراد. وأسَّس تشاوم شركة ديجيكاش DigiCash لوضع مفهومه قيد التنفيذ بعد مرور عدة سنوات. ورغم إفلاس ديجيكاش عام 1998، أَدَّت المفاهيم التي قَدَّمَتها الشركة -بالإضافة إلى عددٍ من صيغها وأدوات تشفيرها- دوراً مهماً في تطوير العملات المشفرة اللاحقة.

الأموال القائمة على الويب

في التسعينيات، بذلت عددٌ من الشركات جهودها لخدمة أهداف ديجيكاش. ومن بين تلك الشركات، تأتي شركة باي بال PayPal على رأس قائمة الشركات ذات التأثير الأكثر دواماً على العالم المالي الأوسع. إذ أحدثت باي بال ثورةً في المدفوعات عبر الإنترنت من شخصٍ إلى شخص. وسمحت للأفراد بتحويل الأموال بسرعةٍ وأمان عبر مُتَصَفِّحِ الإنترنت. وأَمَّنَت باي بال قاعدة مستخدمين مُخلصين سمحت لها بالنمو والازدهار، عن طريق ربط نفسها بمُجتمع شركة إي باي eBay. وتُحافظ الشركة اليوم على مكانتها كخدمة مدفوعاتٍ كُبرى. كما حفَّزَت باي بال ظهور العديد من المُحاكيات، ومن بينها شركات حاولت توفير وسيلةٍ لتداول الذهب عبر متصفح الإنترنت. تُعَدُّ شركة إي غولد e-gold واحدةً من أكثر تلك العمليات نجاحاً، إذ وفَّرَت للأفراد رصيداً على الإنترنت مُقابل الذهب المادي وغيره من المعادن النفيسة. وواجهت تلك الشركة العديد من المشاكل مع أنواعٍ مُختلفةٍ من الاحتيال، قبل أن تغلقها الحكومة الفيدرالية عام 2005.

بي موني B-Money

في عام 1998، طَرح المُطَوِّر وي داي فكرة “نظام نقودٍ إلكترونيةٍ مجهولٍ ومُوَزَّع” تُدعى بي موني B-money. واقترح داي إنشاء بروتوكولين مُختلفين، يتطلب إحداهما قناة بثٍ مُتزامنةٍ غير قابلة للانسداد. لم تنجح بي موني مُطلقاً في نهاية المطاف، واختلفت بالطبع عن البتكوين من عدة نواح. ورغم ذلك، تُعَدُّ هذه مُحاولةً حقيقيةً لإنشاء نظام نقودٍ إلكترونيةٍ مجهولٍ وخاصٍ وآمن. وفي نظام بي موني، تُستخدم الأسماء الرقمية المُستعارة من أجل تحويل العملة عن طريق شبكةٍ لامركزية. واحتوى النظام أيضاً على وسيلةٍ لإنفاذ العقود إلى الشبكة، دون اللجوء إلى طرفٍ ثالث. ورغم أن وي داي قَدَّم ورقةً بيضاء لبي موني، لكنه فشل في جذب الاهتمام اللازم لتنفيذ عملية إطلاقٍ ناجحةٍ بنهاية المطاف. ومع ذلك، أشار ساتوشي إلى بعض عناصر بي موني في الورقة البيضاء للبتكوين بعد مرور قرابة العقد من الزمن، لذا لا يُمكن إنكار تأثير بي موني على جنون العملات المشفرة الحالي.

بت غولد

لا تخلط بين هذه الشركة وشركة التداول -القائم على الذهب- المُعاصرة والتي تحمل الاسم نفسه، إذ أن بت غولد Bit Gold كانت عبارةً عن نظام عملةٍ إلكترونيةٍ آخر، ويرجع تاريخها لنفس الفترة التي ظهرت خلالها بي موني. وإثر تقديمها بواسطة نيك زابو، خرجت بت غولد بنظام إثبات العمل الخاص بها والذي ينعكس اليوم على عملية تعدين البتكوين بطريقةٍ أو بأخرى. وخلال هذا الإجراء، يجري جمع الحلول المُشَفَّرة ونشرها للعامة بنفس الطريقة التي تعمل بها البلوكتشينات المُعاصرة تقريباً.

ورغم ذلك، ربما يكون الجانب الأكثر ثوريةً في مفهوم بت غولد هو ابتعادها عن حالة المركزية. وهدفت بت غولد إلى تَجَنُّبِ الاعتماد على مُوَزِّعي العملة المركزية وسلطاتها. وكان زابو يطمح إلى أن تعكس بت غولد ملكيات الذهب الحقيقية، وبالتالي تُمَكِّن المستخدمين من إقصاء الوسطاء كلياً. وفشلت بت غولد مثل بي موني في نهاية المطاف. رغم ذلك، مَثَّلَت الشركة إلهاماً لمجموعةٍ كبيرةٍ من العملات المشفرة التي دخلت السوق بعد عِقْدٍ أو أكثر من تأسيس بت غولد.

هاش كاش

إثر تطويرها في منتصف التسعينيات، كانت هاش كاش Hashcash واحدةً من أنجح العملات المشفرة التي سبقت البتكوين، وفقاً لموقع ذا ميركل The Merkle. صُمِّمت هاش كاش لخدمة عددٍ من الأغراض، ومنها تقليل البريد الإلكتروني غير المرغوب فيه والحيلولة دون وقوع هجمات الحرمان الموزع من الخدمات (DDoS). كما فتحت هاش كاش الباب أمام مجموعةٍ واسعةٍ من الإمكانيات التي لن يُدركها أحدٌ قبل مرور عِقْدَين من الزمن. واستخدمت هاش كاش خوارزميةً لإثبات العمل من أجل المساعدة في إصدار وتوزيع العملات الجديدة، مثل العديد من العملات المُشَفَّرةِ المُعاصرة. وبالطبع، واجهت هاش كاش العديد من المشاكل التي تُواجهها العملات المُشَفَّرة في وقتنا الحاضر، إذ عانت عام 1997 من الحاجة إلى قدرة مُعالجةٍ أكبر، مما قَلَّلَ فاعليتها تدريجياً في نهاية المطاف. وشهدت هاش كاش قدراً كبيراً من الاهتمام في أيام ذُروتِها، رغم حقيقة تلاشيها مع مرور الوقت. ووجدت العديد من عناصر نظام هاش كاش طريقها إلى عملية تطوير البتكوين أيضاً.

تَسَبَّب تطوير البتكوين عام 2009 في إطلاق جيلٍ جديدٍ من العملات المشفرة. وتختلف عملة البتكوين عن العديد من سابقاتها في حالتها اللامركزية وتطويرها لتكنولوجيا البلوكتشين. ورغم ذلك يصعب تَخَيُّل إصدار البتكوين -فضلاً عن ذكر مئات العملات الرقمية الأخرى التي أُطلقت منذ ذلك الحين-، دون تَذَكُّر المحاولات المُبَكِّرة لإنتاج العملات المُشَفَّرة والنقود الإلكترونية في العقود التي سبقت إطلاق البتكوين.

 

إخلاء المسؤولية: الآراء والتحليلات والأخبار الواردة لا تعكس رأي بت شين. لا ينبغي اعتبار أي من المعلومات التي تقرأها على موقع بت شين بمثابة نصيحة استثمارية، ولا تصادق بت شين على أي مشروع قد يتم ذكره أو ربطه في هذه المقالة. يجب اعتبار شراء وتداول العملات المشفرة نشاطًا عالي المخاطر. ويرجى بذل المجهود الواجب قبل اتخاذ أي إجراء يتعلق بالمحتوى المذكور ضمن هذا التقرير. لا تتحمل بت شين أي مسؤولية في حالة خسارة الأموال في تداول العملات المشفرة.