1- إثبات العمل في مقابل إثبات الحصة

 

حضرتُ منذ عهدٍ قريب مناظرةً مذهلة حول هذا الموضوع في شركة Grand Central Tech.

 

كانت الفاعلية، التي استضافها مجتمع نيويورك للعملات المشفرة، تجمع بين اثنين من أبرز مؤيدي إثبات العمل proof of work ضد مؤيد إثبات الحصة proof of stake نيت راش، في مناظرةٍ مشوّقة حول ما يمكن القول إنَّه أهم سؤال يواجه مجتمع البلوكتشين في الوقت الراهن.

 

لمن لا يعرف “إثبات العمل” و”إثبات الحصة”: هما نمطان من أنماط ما يُعرف باسم “خوارزمية الإجماع”، التي تتألف بدورها من مجموعة من القواعد تحكم كيفية تحديد إذا ما كانت المعاملة صحيحة أم لا في البلوكتشين. من ثم، يمكن القول إنَّ خوارزمية الإجماع هي دستور البلوكتشين أو القواعد الأساسية التي تحدد طبيعة البلوكتشين وسلوكياتها.

 

من بين هذين النمطين، إثبات العمل هو المعيار المعمول به فعلياً في الوقت الراهن والمستخدم في تشغيل أكبر عملتين مشفرتين في العالم على الإطلاق: البتكوين والإيثريوم. يتطلب إثبات العمل من المشاركين في صميمه إثبات أنَّهم قد أنجزوا قدراً معيناً من العمل الحسابي من أجل السماح بتسجيل المعاملة في النظام. من خلال فرض هذا الشرط، يجعل البتكوين والإيثريوم محاولة تسجيل المعاملات الاحتيالية في النظام أمراً غير مجدٍ اقتصادياً؛ فطالما أنَّ نصف الحواسيب على الأقل في أيدي “الصالحين”، لن يستطيع “الأشرار” ارتكاب عمليات الاحتيال، وسيصبح من الممكن الوثوق في مدى دقة المعاملات على البلوكتشين.      

 

ورد ذكر إثبات العمل لأول مرة في الورقة البيضاء الأصلية حول البتكوين التي نُشرت عام 2008 تحت الاسم المستعار “ساتوشي ناكاموتو” باعتباره أول خوارزمية لحل “مشكلة الإنفاق المزدوج”، التي كانت تمثل نقطة ضعف العملات المشفرة. وأُشيد بمفهوم إثبات العمل لكونه يتسم بالفعالية وسهولة الفهم والتنفيذ، وإن كان عيبه الأساسي هو أنَّه يتطلب كمياتٍ هائلة من الطاقة؛ إذ ينطوي “العمل” في إثبات العمل على حساباتٍ اعتباطية (وعقيمة)، مما يعني أنَّ المشاركين في الشبكة يتنافسون أساساً على إهدار أكبر قدر ممكن من الكهرباء.

 

أما إثبات الحصة، فهو خوارزمية إجماع تجريبية أحدث عهداً يُنظر إليها في كثيرٍ من الأحيان على أنَّها بديلٌ محتمل لإثبات العمل؛ إذ أنَّها تسعى إلى تجنب تكلفة الطاقة الهائلة الناتجة عن إثبات العمل عبر جعل عملية تحديد المعاملات التي ستدخل النظام أمراً لا علاقة له بالقدرة الحسابية، بل بامتلاك التوكنات وإيداعها في النظام: فما إن يسجل المشارك بعض التوكنات (البتكوين أو الأيثر، على سبيل المثال)، حتى يصبح قادراً على تحديد أي المعاملات مقبولة وأيها ليس كذلك. وكلما سجَّل المشترك المزيد من التوكنات، زادت قدرته على المشاركة. أما في حال حاول المشترك تسجيل العملات المشفرة لكي يسمح بتسجيل المعاملات الاحتيالية، هناك احتمال كبير أن يخسر عملاته. من ثم، يعد إثبات الحصة حافزاً يدفع المشاركين إلى محاولة تسجيل المعاملات النزيهة عوضاً عن المعاملات الاحتيالية (على افتراض أنَّ معظم حاملي التوكنات سوف يُفضِّلون تسجيل المعاملات النزيهة). مع ذلك، فإنَّ لإثبات الحصة مشكلة عويصة، ألا وهي أنَّه أكثر عرضة من إثبات العمل لأنواعٍ معينة من الهجمات، مثل الهجمات الناتجة عن التلاعب بأسعار التوكنات. ويعد الانتقال إلى خوارزمية إثبات الحصة في المستقبل محل اهتمام كبير وبحث نشط من جانب مجتمع الإيثريوم.

 

2- الواقعية السياسية في مقابل المؤسسات الدولية

 

بينما كنتُ أتابع المناظرة (وأفكر في كل ما قرأته من قبل حول تلك البروتوكولات)، لم يسعني سوى أن أتذكر مناظرةً مشابهة في مقررات الشؤون الدولية: ففي سياق الشؤون الدولية، هناك مفهوم يدعى “الواقعية السياسية”، ابتُدع لأول مرة في ألمانيا في القرن التاسع عشر. هذا المفهوم هو فلسفة سياسية ترى أنَّ ما يحدد طبيعة علاقات الدول ببعضها، في ظل غياب حكومة عالمية قوية افتراضية، هي الحقائق العملية كالقوة العسكرية. ينظر مؤيدو هذا المفهوم إلى الدول على أنَّها تتعايش “بحالة الطبيعة”؛ حيث لا يكون للأيديولوجيات ولا القيم ولا المبادئ أي أهمية أو تأثير، حتى ولو قليلاً. ومن المتعارف عليه أنَّ الواقعية السياسية فلسفة فعالة سهلة الفهم والتنفيذ.

 

وفي ظل غياب دبلوماسية موثوق بها، تجد الدول أنفسها مُحفَّزة للمشاركة في سباق تسلّح، والتنافس على بناء جيوش قوية بأسلحة أكثر تطوراً. نتيجةً لذلك، تُحوَّل الموارد بعيداً عن السلع والخدمات الاجتماعية مثل المدارس والمستشفيات؛ لأنَّ الدول مهما كانت مزدهرة، طالما أنَّ جيشها ضعيف، ستتعرض للغزو لا محالة. كذلك، فإنَّ فترات الاستقرار لا تحدث إلا في حالةٍ من اثنتين: إما أن تكون الدولة من القوة بحيث لا يكون لها منافسين (“الهيمنة”)، أو أن يكون هناك أكثر من دولة على نفس القدر من القوة بحيث تصل إلى حالة من الجمود السلمي، حتى وإن ظلت العلاقات بينها متوترة (“عالم متعدد الأقطاب”). وما أكثر الحروب في التاريخ!

 

وحين اقتربت الحرب العالمية الثانية من نهايتها، اجتمعت دول الحلفاء سوياً في منطقة بريتون وودز بولاية نيوهامبشير الواقعة شمال شرق الولايات المتحدة، وبدأت العمل على التوصل إلى بديل: فقد رأت أن هذه الحرب التي شارك فيها الجميع قد دارت رحاها بما يكفي، وآن الأوان لتطوير نظامٍ دولي من المنظمات وربط الدول ببعضها بشبكة من المال والأعمال، ذات آليات للنقاش والتنظيم وتسوية النزاعات، وتعاهدت في ما بينها على استبدال السنابل بالقنابل، فقد ولى عهد الحرب إلى غير رجعة!

 

أثبت هذا النظام فعاليته: إذ أنَّه لم يسهل التركيز المكثف للثروة العالمية في أيدي قلةٍ قليلة من الدول فحسب، بل نجح أيضاً في الحيلولة دون اندلاع حربٍ شاملة بين القوى العظمى، ومن المفهوم عموماً أنَّه كان له أثراً مشجعاً على العلوم والتكنولوجيا والثقافة وتحسين حياة الملايين.

 

3- الجدلية تسيطر على كل شيء من حولنا

 

من المثير للاهتمام مقارنة نظاميّ الشؤون الدولية السابقين بنمطيّ خوارزمية الإجماع الذين يناقشهما هذا المقال، والتأمل في التشابه الجوهري للمشكلات التي تحلها: ففي كلتا الحالتين، نحن نسعى إلى فرض النظام بين الأطراف المتنافسة، بل وربما المتعادية. في النهج الأول، تتوقف النتائج على إظهار القوة، وهو نهج ناجع طالما كانت القوة تمثل سماتٍ أخرى مرغوب فيها: مثل السيطرة على الموارد، والقدرة التنظيمية، والإيمان الراسخ، فضلاً عن كونه سهل الفهم والتنفيذ. وهو نهج محدود لأنَّه يستلزم توجيه طاقة حُصل عليها بشق الأنفس نحو عمل لا طائل من ورائه. وبما أنَّ عملية الحياة الأساسية هي الاستحواذ على الطاقة وتخصيصها، فإنَّ هذا يعد بالضرورة نهجاً غير مثالي.

 

أما النهج الثاني، فيتمثل في محاولة وضع نظام أكثر دقة في العلاقات المعنوية، على أمل أن يكون ذلك الإطار قوياً بما يكفي للتصدي للمحاولات الحتمية لاستغلاله والسيطرة عليه من جانب من يسعون لفرض تأثيرهم على النتائج. لكن على النقيض من النهج الأول، يعد هذا النهج أكثر عرضةً للتقويض بسبلٍ ربما يكون من العسير التنبؤ بها أو اكتشافها أو الاستجابة لها. إذا كنَّا كمجتمع، سواءٌ مجتمع العملات المشفرة أم المجتمع العالمي، نمتلك المهارة والالتزام لتنفيذ الرؤية، فإنَّ هذا النظام سيتيح للمشاركين به التنافس بطريقة عادلة تتوقف فيها النتائج على التحلي بالسمات المرغوب فيها، لكنَّه أيضاً نظام شديد الفعالية من ناحية أنَّه يستهلك أقل قدر ممكن من الطاقة أو يحتفظ بها لمهام أخرى؛ أي أنَّ المخاطرة به أعلى، لكنَّه مجزٍ أكثر.

 

إذا نظرنا إلى هاتين المناظرتين، وهما مناظرة واحدة في الأساس، فإنَّه من العسير ألا نتوقف للحظة ونرجع بتفكيرنا إلى الوراء أكثر، لنعقد صلةً ثانية بين هاتين المناظرتين وتطوُّرنا كبشر فقد بدأنا مجرد خلايا، لكنَّنا تطورنا بمرور الوقت إلى عقول معقّدة. بالمثل، فإنَّ التوترات بين هاتين المدرستين الفكريتين هي نفسها التوترات بين أجسامنا وعقولنا: فالعقل هو ما يتحمل المخاطر، لكنَّنا نتسائل في كثيرٍ من الأحيان عمَّا إذا كان الجسد هو كل ما نحتاجه. من الناحية الأخرى، الجسد محدود، لكنَّ العقل واعد للغاية. فهل نحن نتمتع بالمهارات والرؤية والشجاعة اللازمة للمجازفة دون أن نفقد صلتنا بماضينا؟  

 

إخلاء المسؤولية: الآراء والتحليلات والأخبار الواردة لا تعكس رأي بت شين. لا ينبغي اعتبار أي من المعلومات التي تقرأها على موقع بت شين بمثابة نصيحة استثمارية، ولا تصادق بت شين على أي مشروع قد يتم ذكره أو ربطه في هذه المقالة. يجب اعتبار شراء وتداول العملات المشفرة نشاطًا عالي المخاطر. ويرجى بذل المجهود الواجب قبل اتخاذ أي إجراء يتعلق بالمحتوى المذكور ضمن هذا التقرير. لا تتحمل بت شين أي مسؤولية في حالة خسارة الأموال في تداول العملات المشفرة.