الطبيعة تفضّل دائماً السرعة على البطء: فقدرة الحيوانات على الركض أسرع من مفترسيها والهروب منهم تزيد من احتمالات بقائها على قيد الحياة، والعكس صحيح أيضاً بالنسبة لقدرة الحيوانات المفترسة على الركض أسرع من فرائسها. وبالتالي، كنتيجة لعملية التطوّر، يصبح لدينا فطرياً اعتقاد راسخ بأنَّ السرعة هي شرط أساسي للنجاح.

سرعان ما انتقل هذا الرأي إلى سوق المال؛ حيث ترتبط السرعة بالأفضلية التنافسية وتحقيق المزيد من الأرباح، كما سيقول لك أي مضارب في عمليات التداول السريع.

ظهر هذا جلياً أيضاً في إحدى فعاليات توكنات الأوراق المالية التي عُقدت مؤخراً في العاصمة البريطانية لندن. كانت الفعالية عبارة عن تجمع صغير ولكن مؤثر من رواد الأعمال والمستثمرين وممثلي مؤسسات التمويل التقليدية ناقشوا فيه طبيعة الشكل الذي سيتخذه هذا النوع الجديد من الأصول.

كان من بين ممارسات الفعالية تقسيم المشاركين إلى مجموعات، ثم تصنيف المزايا المفترضة لتوكنات الأوراق المالية: وُزعت علينا لائحة بالنتائج كي نختار من بينها، شملت السيولة والكفاءة التشغيلية والشفافية والابتكار وغيرها كثير. لم يكن هناك إجماع واضح، لكن ذلك لم يكن مفاجئاً، خصوصاً مع تنوع المشاركين (يشبه في ذلك إلى حد كبير طبيعة القطاع ذاته). ما كان مفاجئاً فعلاً هو عدد المشاركين الذين أصّروا على أنَّ الميزة الرئيسية للتوكنات هي “السرعة”.

كانت تلك الإجابة مفاجئة لأنًَها مبنية افتراضات ثلاثة، هي كالآتي:

  1. أنَّ السرعة أمر مرغوب فيه
  2. أنَّ سلاسل البلوكتشين هي ما يضفي على المعاملات سرعتها
  3. أنَّها مشكلة تقنية

ولكنَّها جميعاً افتراضات خاطئة.

السرعة ليست أولوية

بادئ ذي بدء، لنلقِ نظرة على سر الاعتقاد بأنَّ زيادة سرعة إجراء المعاملات المالية أمر مرغوب فيه.

يرجع السبب الرئيسي وراء ذلك الاعتقاد إلى تقليل المخاطر: كلما استغرقت تسوية المعاملة مدة أطول، زاد خطر عجز المشتري عن الوفاء بالتزامه بالدفع؛ لا سيما في أسواق رأس المال، حيث يتم كل شيء بسرعة شديدة: حتى المشتري الذي أراد شراء أحد الأصول بحلول يوم الثلاثاء مثلاً قد يجد نفسه مفلساً (أو ضحية عملية اختراق، أو تم تجميد حساباته) بحلول يوم الأربعاء.

تتغلب الأسواق التقليدي تتغلب على هذه المشكلة عادةً عن طريق طرف يُسمى “مركز المقاصة المركزي” (CCP) يتدخل لشراء وبيع الأصول من كل مشارك في التداول باسمه وبأمواله الخاصة، إلا أنَّ ذلك يضيف المزيد من التكاليف والوسطاء إلى النظام، ويظل هناك خطراً (ضئيلاً) بأنَّ مركز المقاصة المركزي قد يختفي فجأة دون أن يكمل عمليات التداول.

أمَّا أسواق توكنات الأوراق المالية، فليس لديها جهة تتولى دور مركز المقاصة المركزي بعد؛ ربما تظهر مثل تلك الجهة عندما تنضج السوق، فتضفي عليها مزيداً من السيولة والموثوقية. وفي الوقت نفسه، عدم وجود دورة تجارية سريعة لأصول العملات المشفّرة يزيد من مخاطرها.

كذلك، فإنَّ سرعة إجراء المعاملات أمر مرغوب فيه أيضاً، من الناحية النظرية، لأنَّها تسمح باستخدام الأموال بكفاءة أكبر؛ ولكن هذا ليس صحيحاً كلياً: فلو كنت أنا البائع، لرغبت في الحصول على المال عاجلاً وليس آجلاً بالطبع! فكلما تسنى لي استثماره مقابل عائد أو استخدامه في سداد المدفوعات المستحقة بسرعة أكبر، كان هذا أفضل. بينما يفضّل المشتري، من الناحية الأخرى، دفع المال آجلاً؛ لأنَّه على الأرجح يحتفظ به في مكان ما ويحقق فوائد من ورائه، أو لأنَّه قد يضطر إلى بيع أحد أصوله لجمع الأموال التي يدين بها للبائع.

لكي تتحقق التسوية الفورية التي تعد بها تقنية البلوكتشين، لابد من إيداع الأموال أولاً لدى منصة تداول أو جهة وسيطة. حتى لو وفرت تلك المنصة أو الجهة عائداً على تلك الأموال (وهذا أمر شبه مستحيل)، سيكون أقل بكثير ممن العائدات التي يمكن الحصول عليها من أي مكان آخر. وحتى لو كانت الجهة تدير الأموال نيابةً عن آخرين، من المستبعد أن يكون ذلك أمراً مقبولاً.

ثم ماذا لو كان البائع يمتلك الأصل فعلاً، ولكنه ليس بحوزته حالياً؟ لعله أقرضه إلى وسيط يبيع بالمكشوف أو استخدمه كضمان، وبالتالي يحتاج وقتاً كي يفك ذلك الالتزام قبل أن يتمكن من نقل ملكيته إلى المشتري. أي أنَّ شرط وجود الأصل لكي تتم التسوية الفورية قد يعيق نمو عملية الإقراض والضمان ويحول دون ظهور سوق متطورة.

لتسليط الضوء على هذه النقطة: منذ عدة سنوات مضت، انتقلت بورصة موسكو من تسوية المعاملات في نفس اليوم إلى تسويتها خلال يومين، في ما وُصف آنذاك بـ”التحديث”.

ربما تقلل سرعة تسوية المعاملات من المخاطر، لكنَّها أيضاً تضفي درجة من عدم الكفاءة.

سلاسل البلوكتشين ليست سريعة

والآن، لنلقِ نظرة على المفهوم الخاطئ القائل إنَّ المعاملات القائمة على سلاسل البلوكتشين تكون أسرع من المعاملات القائمة على الطرق التقليدية.

إنَّ سلاسل البلوكتشين أبطأ بكثير من قواعد البيانات المركزية؛ إذ إنَّ هذه التقنية تتضمن التأكد من صحة عملية التحويل من الشبكة بأكملها، وهي عملية قد تتراوح مدتها ما بين ثوانٍ معدودة إلى عدة دقائق حسب خوارزمية الإجماع المستخدمة في البلوكتشين المعنية.

حتى سلاسل البلوكتشين الخاصة، التي ليست لديها اعتبارات الإجماع ذاتها، بها درجة من التأخر Latency.

من الناحية الأخرى، فإن إتمام عمليات التداول في الأسواق التقليدية لا يستغرق سوى أجزاء من الثانية.

تسوية المعاملات بدورها ليست سريعة على البلوكتشين: ففي الأسبوع الماضي، الأسبوع الأول من يونيو/ حزيران 2019، نشر البنك الاتحادي الألماني Bundesbank  نتائج سلسلة من التجارب التي أجراها بالتعاون مع البورصة الألمانية اختبر فيها تقنية البلوكتشين في مقابل الطرق التقليدية في إجراء التسويات المالية؛ ولم تأتِ النتيجة في صالح تقنية البلوكتشين من حيث السرعة والتكلفة.

التقنية بحد ذاتها ليست المشكلة

لكن لا شك أنَّ التسويات القائمة على تقنية البلوكتشين تكون أسرع من التسويات التقليدية بطبيعة الحال لأنَّها تستغني عن الوسطاء، أليس كذلك؟ فوجود خطوات تنفيذ أقل من المفترض أن يعني سرعة أكبر في نقل الأصول والمدفوعات.

ربما، ولكن عدد الخطوات ووجود الوسطاء من عدمه ليست مشكلة تقنية. المهم هو عمليات المعالجة، وهي تخضع للتطور استجابةً للمشكلات والظروف التي تظهر بمرور الوقت، وبالتالي فإنَّ الانتقال إلى استخدام نظام نقل وتسوية قائم على تقنية البلوكتشين لن يحل تلك المشكلات بالضرورة؛ فكما رأينا سابقاً، التسوية الفورية ليست أمراً مرغوباً به دائماً.

بتوقعنا أن “يحل” نوع جديد من الأصول مشكلة لا وجود لها على أرض الواقع، وبتقنية ليست أسرع من غيرها، نضع توقعات غير واقعية على مفهوم ناشئ.

والتوقعات غير الواقعية لن تساعد تلك الأصول الجديدة على إيجاد أسواقها.

ما هو المطلوب؟

لا يزال الشكل الذي سيتخذه السوق غير واضح. ما هو واضح بالفعل هو التطور السريع الذي يشهده القطاع وقدرته على المساعدة في إصلاح أسواق رأس المال عن طريق نشر الأصول والتسويات القائمة على تقنية البلوكتشين.

ولكن لكي يتحقق ذلك، لابد من تنفيذ عدة أمور:

  • لابد من اعتماد معايير موحدة للقطاع بأكمله لضمان تحقق إمكانية التشغيل المتبادل والسلاسة في نقل الأصول والأموال.
  • لابد من وضع لوائح تنظيمية أو رقابة (أو كليهما) للتصدي لعمليات الاحتيال وتراكم المخاطر إلى حد الخطر.  
  • لابد من تطوير أسواق العملات المستقرة كي تسمح بالدفع الفوري دون الحاجة للاعتماد على تحويل الأموال النقدية.
  • وأخيراً، لابد من تطوير العقود الذكية بما يضمن عملية نقل موثوق بها للملكية والحقوق.

كلها أمور محتملة الحدوث. لكن حتى وإن نُفذت فعلاً، ليس هناك ما يضمن أن يتم تداول توكنات الأوراق المالية وتسويتها بسرعة أكبر من الأصول العادية.

فقد ثبت لنا من قبل أنًّ تطوّر أسواق المال لا يأتي في صالحنا دائماً، على عكس الطبيعة.

ففي قطاع المال، الكفاءة والمرونة أهم بكثير من “الفوز”، بالضبط كما في قصة الأرنب والسلحفاة.

إخلاء المسؤولية: الآراء والتحليلات والأخبار الواردة لا تعكس رأي بت شين. لا ينبغي اعتبار أي من المعلومات التي تقرأها على موقع بت شين بمثابة نصيحة استثمارية، ولا تصادق بت شين على أي مشروع قد يتم ذكره أو ربطه في هذه المقالة. يجب اعتبار شراء وتداول العملات المشفرة نشاطًا عالي المخاطر. ويرجى بذل المجهود الواجب قبل اتخاذ أي إجراء يتعلق بالمحتوى المذكور ضمن هذا التقرير. لا تتحمل بت شين أي مسؤولية في حالة خسارة الأموال في تداول العملات المشفرة.