يستكشف هذا المقال ثلاث فقاعات استثمارية؛ فقاعة شركة ساوث سي South Sea، والطفرة الترونية وفقاعة العروض الأولية للعملة (ICOs). وبينما حدثت تلك “القصور في الهواء” خلال حقب مختلفة، وتورطت فيها شركات وتقنيات مختلفة تماماً، إلا أنَّ ركائز الظاهرة تظل هي نفسها. إذ يجرف جنون الحشود المستثمرين، دافعاً إياهم لاقتفاء أثر القطيع أملاً في تحقيق الثراء السريع. ويمكننا، بتحليل تلك الفقاعات، تعلم دروس استثمارية هامة. 

لا يمثل هذا المقال نصيحة قانونية، أو استثمارية أو عملية، وليس الغرض منه الاعتماد عليه على هذا النحو.

تاريخ موجز للفقاعات والدروس المُستفادة منها

الفقاعات في عالم المنتجات الاستثمارية هي خاصية وليست بخلل في الأسواق المالية. إذ يظهر، بين الحين والآخر، اتجاه سائد في السوق يُغري الجميع باتباعه. وتاريخنا مليء بالفقاعات والقصور المبنية في الهواء، بداية من الثروات المُنتظرة في البحار الجنوبية، إلى الشركات النامية في قطاع الإلكترونيات وحتى التقنيات الثورية الجديدة في فضاء العملات المُشفَّرة والبلوكتشين.

وبينما نحن نخوض رحلتنا لاستكشاف تاريخ الفقاعات، علينا أنَّ نأخذ بعين الاعتبار الدروس المُستفادة حتى نتمكن من التعرف على الفقاعة الجديدة أو ننتبه عندما يُبنى قصر آخر في الهواء. فعلى الرغم من اختلاف بؤرة الفقاعة باختلاف الوقت والحقبة الزمنية كما سنكتشف لاحقاً، إلا أنَّ سماتها المميزة وخصائصها الأساسية ثابتة لا تتغير. ويبين تحليل الثلاث فقاعات، شركة ساوث سي والفقاعة الترونية وفقاعة العروض الأولية للعملة، أنَّ هناك بالفعل محاور رئيسية ودروس مُستفادة مُشتركة. وما نستطيع استنتاجه، في النهاية، من كل هذا هو أنَّ السلوك البشري الاستثماري لم يتغير منذ أكثر من 300 عام. فالتاريخ في الواقع عادة ما يكرر نفسه. 

بناء القصور في الهواء

في مركز جميع الفقاعات نفس السمة المُشتركة؛ يتجاهل المُستثمرون نظرية الأساس المتين Firm Foundation Theory، وينجرفون وراء جنون بناء القصور في الهواء. فيسمح المُستثمرون لعواطفهم بتوجيه قراراتهم الاستثمارية بدلاً من تقييم الأصول بناءاً على قيمتها الفعلية الحقيقية. فيشرعون في بناء قصرهم في الهواء، متوهمين أنَّهم سيجدون في النهاية ثروة واسعة سريعة. مما يدفعهم لتناسي عملية التحليل الجوهري، واتباع المنطق القائل بأنَّ ما دام سعر الأصل مستمر في الارتفاع، ستجد من يشتريه بسعر أعلى. أحياناً ما يكون ذلك مجزياً فعلاً، وإنَّ كان ينتهي في أحيان أُخرى بخسائر كارثية وغرور مُحطم.

وبغض النظر عن النتائج، يمكننا استيعاب الدروس المُستفادة من جموح الحشود، متسلحين بأفضلية الإدراك المتأخر والمعرفة بنظرية القصور المبنية في الهواء. وتوضح هذه النظرية كيف تكونت العديد من الفقاعات في الماضي؛ بداية من جنون بصيلات التوليب وصولاً إلى أزمات الرهونات العقارية الحديثة. إذا ما تعلمنا أي شيء من الماضي، فسيكون بلا شك أنَّ التاريخ كثيراً ما يعيد نفسه وأنَّ جميعنا كبشر عرضة لأخذ قرارات بناءاً على عواطفنا. فما أنَّ تظهر فقاعة جديدة، سرعان ما نشرع في بناء قصورنا في الهواء. 

تُمثل فقاعتان بالتحديد، فقاعة شركة ساوث سي والطفرة الترونية بستينيات القرن الماضي، محطات تَحوُّل هامة في تاريخ الاستثمار، يمكننا تعلم دروس هامة منها واستخدامها لنتمكن من فهم كيفية تكون فقاعة العروض الأولية للعملة في عام 2017 والتي سرعان ما انفجرت. 

فقاعة شركة ساوث سي

وجدت بريطانيا نفسها، خلال القرن الثامن عشر، متورطة في حرب وراثة العرش الإسباني، والتي سيطرت إسبانيا خلالها على معظم البحار والطرق التجارية في أميركا الجنوبية. لذا سعت المملكة البريطانية المُثقلة بالديون إلى تكوين شركة ساوث سي في عام 1717، لتسديد الدين الوطني وتخفيف النفقات. ومنحت الحكومة البريطانية الشركة، في المقابل، حقوق احتكار حصرية للتجارة والصيد في “البحار الجنوبية”، ومن هنا اشتقت الشركة اسمها. قُوبلت الشركة بترحيب من الرأي العام، الذي ظن أنَّ حقوق الاحتكار ستقود إلى فرص كسب حصرية. ولكن المسئولين عن الشركة لم يكن لديهم أي معرفة أو خبرة سابقة في التجارة بالبحار الجنوبية. 

فمنذ تدشين الشركة، كان تداول أسهم الشركة مصدر الأرباح الوحيد، وليس أعمال الشركة التجارية. اشترى المستثمرون المطلعون على خطط تكوين الشركة السندات الحكومية بنية تحويلها مُستقبلاً إلى أسهم بالشركة ذات قيمة أكبر. وفي عام 1720، دخل عرض الشركة بتمويل كامل الدين الوطني البريطاني حيز التنفيذ بفضل تشريع برلماني. وحصل مؤيدو التشريع على منح من الأسهم المجانية، يمكنهم بيعها إلى الشركة مجدداً عند ارتفاع سعر الأسهم. ارتفعت قيمة أسهم الشركة بصورة ملحوظة بعد تمرير التشريع البرلماني، ورغبت العموم الشاهدة على الارتفاع المستمر في أسعار أسهم الشركة في جزء من الغنيمة. 

أصدرت الشركة أسهم جديدة، تلبية للطلب المتزايد من المستثمرين، بسعر 300 جنيه استرليني للسهم، على أنَّ يُدفع 60 جنية استرليني منهم مُقدماً ويسدد الباقي على ثمانية أقساط. عرضت الشركة لاحقاً أسهمها للبيع العام مع ازدياد الطلب على شراء الأسهم تزامناً مع زيادة سعره. وصل سعر السهم، في هذه المرحلة، إلى 1000 جنيه استرليني، أي عشرة أضعاف سعره الأولي والبالغ 100 جنيه استرليني للسهم الواحد. سرعان ما سيطرت عقلية القطيع رسمياً على مقاليد الأمور، وشرعت الجموع في بناء قصور مهيبة في الهواء رغم أنَّ الشركة لم تحقق أي أرباح على أرض الواقع. مما أدى إلى تضخم الشركة اسماً فقط دون أساس تستند إليه. 

انطلق المستثمرون باحثين عن فرص مؤاتية لبناء المزيد من القصور في الهواء، بعدما أعمتهم رغبتهم في تحقيق الثراء السريع. ولم يخيب السوق ظنهم. بدأ مُروجو الأسهم تسويق أسهم شركات لا تصلح للبيع، لاستعداد المستثمرين لشراء أي أسهم. حتى أنَّهم كونوا شركات بأهداف تجارية خيالية مثل تجارة الشعر البشري، وبناء المستشفيات لعلاج الأطفال اللقطاء، واستخراج الفضة من الرصاص وأشعة الشمس من الخيار.

عرض أحد المُروجين أسهم للبيع بشركة تهدف لـ”تحقيق ربح عظيم، وإنَّ كان لا يعرف أحد ماهيته”. بُيعت كافة أسهم الشركة فوراً، ولاذ المُروج سريعاً بالفرار إلى أوروبا ولم يظهر مرة أُخرى. 

ينص قانون الجاذبية على أنَّ ما يرتفع لأعلى لابد أنَّ يهبط لأسفل. وينطبق نفس المبدأ على أسهم تلك الحقبة، ذات التقييمات الغريبة. فباع القائمون على إدارة شركة ساوث سي أسهمهم بالشركة، بعدما أدركوا أنَّ قيمة الأسهم لا تتوافق مع قيمتها الفعلية، وهو ما وصلت أخباره إلى العموم. مما تسبب في موجة كاسحة من بيع أسهم الشركة. إلى أنَّ انهار السهم معدوم القيمة والأرباح أخيراً. وتبدد القصر المهيب في الهواء، مع بقية القصور المبنية على الآمال بالثراء السريع. بلغ الانهيار الاقتصادي الناتج درجة من السوء، دفعت البرلمان البريطاني لتمرير تشريع يمنع الشركات من إصدار الأسهم، وهو ما لم يُنقض حتى عام 1825. 

الطفرة الترونية بستينيات القرن الماضي

تتشارك الطفرة الترونية، بستينيات القرن الماضي، الكثير من القواسم مع فقاعة شركة ساوث سي. فالأسباب الجوهرية وراء الطفرة والفقاعة هي نفسها، رغم أنَّه يفصلهما 250 عاماً؛ انخداع المُستثمرين الباحثين عن أحدث الاتجاهات الشائعة بجنون القطيع أملاً في الاستثمار مبكراً والبيع لاحقاً بسعر أعلى. 

اشتهرت حقبة الستينيات بـ”الأسهم متنامية القيمة” مثل شركة أي بي إم IBM وتكساس إنسترومينتس Texas Instruments. فكل ما ذو علاقة بالإلكترونيات، كان شديد الرواج في بورصات وال ستريت. انجذب المُستثمرون نحو الأسهم الواعدة بعوائد مرتفعة من مشاريع تجارية عالية المخاطرة، مثل ما حدث أثناء فقاعة شركة ساوث سي من قبل. بدأت الشركات الناشئة في استخدام تنويعات على لفظة “إلكترونية” باسمها للتداول، أملاً في جذب الاستثمارات استناداً على الصلة بالاتجاه الشائع الجديد. وحاولت الشركات الأقدم أيضاً الاستفادة من الاتجاه الشائع، وبدأت في تغيير أسماء تداولها لتضم تنويعات لفظية على “الإلكترونيات”. 

ومن هنا جاءت تسمية فقاعة الستينيات بالفقاعة “الترونية”، إذ سارعت الشركات بدمج تنويع ما على الإلكترونيات لأسماء تداولها، لجذب الاستثمارات الجديدة رغم عدم وجود أي صلة بين تلك الشركات وصناعة الإلكترونيات. فعلى سبيل المثال، غيرت شركة أميركان ميوزيك جيلد American Music Guild، والتي باعت أجهزة تشغيل الأسطوانات بالتجزئة، اسمها إلى سبايس توون Space Toon قبل إدراج أسهمها للتداول في البورصة. ولم يخب أملها، إذ ارتفع سعر السهم من 2 دولار إلى 14 دولار خلال أسابيع قليلة، لمجرد أنَّ اسمها بدا ذي علاقة ما بصناعة الإلكترونيات. فالمستثمرون، ببساطة، لم يهتموا إذا ما عكس السعر قيمة السهم الفعلية، كل ما شغلهم هو استمرار سعر السهم في الارتفاع. 

كان لابد أنَّ تأتي لحظة تنفجر فيها الفقاعة، مثل كل بدعة وقصر مبني في الهواء، كاسحة معها أغلبية أسهم تلك الشركات. ولم تستطع إلا قلة قليلة الخروج في الوقت المناسب قبل انهيار السوق. تعلم الكثير من المُستثمرين عاقبة تناسي التحليل الأساسي والانسياق وراء عقلية القطيع بالطريقة الصعبة. ولكن كما يثبت التاريخ مرة وراء الأُخرى، لا يتغير سلوك المُستثمرين من جيل لآخر كثيراً، إذ تقاسمت الطفرة الترونية الكثير من خصائص الفقاعة مع فقاعة شركة ساوث سي. وربما لو أولوا الاهتمام للماضي، لكانت اختلفت مجريات الأمور هذه المرة. 

ربما الاختلاف الجوهري بين ما حدث أثناء فقاعتي شركة ساوث سي والطفرة الترونية هو مجال الحماية الاستثماري، والذي فرضته هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية (SEC). إذ تتحمل الهيئة مسئولية حماية المُستثمرين من الاحتيال، والتضليل والتلاعب بالأسواق، وإنَّ كان ليس لديها سلطة منع المُستثمرين من دخول مُجازفات عالية المخاطرة. امتثلت الشركات العارضة للأسهم خلال الطفرة الترونية بقوانين الهيئة، مصدرة نشرات تحمل تحذيرات وافية من مخاطر شراء أسهمها. وضمت الكثير من النشرات الاستثمارية خلال تلك الفترة إخلاء مسؤولية، يعلن أنَّ الشركة ليس لديها أي أصول أو أرباح، ولا تستطيع دفع أي عوائد وأنَّ السهم ينطوي على مخاطرة عالية. ولكن لم يُعر المُستثمرون هذه التحذيرات الواضحة اهتماماً، وشيدوا قصوراً في الهواء أملاً في بيع الأسهم إلى مغفل آخر بسعر أعلى. وما أنَّ شُيد القصر، سارع المُستثمرون بالفرار مثل ما حدث في شركة ساوث سي من قبل، تاركين العديد يحملون وزر قراراتهم الاستثمارية السيئة. 

طفرة العروض الأولية للعملة

بدأت فقاعة العرض الأولي للعملة في التمدد بعد مرور 57 عاماً على الطفرة الترونية وأكثر من 300 عام على فقاعة شركة ساوث سي. وتمتاز فقاعة العرض الأولي للعملة لعام 2017 بالكثير من السمات المميزة لظاهرة الفقاعة الاقتصادية، كما تشارك الكثير من خصائص الحوادث السابقة لبناء القصور في الهواء. وتؤكد، إجمالاً، الاعتقاد بأنَّ التاريخ عادة ما يكرر نفسه. 

شهدت رحلة الوصول إلى طفرة العرض الأولي للعملة اهتمام متزايد من العموم بالعملات المُشفَّرة وتقنيات البلوكتشين. واحتفى العديد بصناعة البلوكتشين والعملات المُشفَّرة كحل سحري، لمشكلات كل من المشهد المصرفي، والإيداعات، والمجال المالي، ووسائل المدفوعات، والحوالات المالية، وانعدام المساواة وتوزيع الثروة. بينما شارك مشاهير المسوقين، والمدونون ووسائل الإعلام بمئات المقالات والكتب والمقالات الصوتية عن التقنية الجديدة، مُثنين على مزاياها الثورية. لذا لم يستغرق الأمر طويلاً لتقتنع الحشود بأنَّ مجالي العملات المُشفَّرة والبلوكتشين هما الكنز الجديد، الذي ستتجاوز قيمته أرباح نجاح الانترنت. وتراءت لهم بالفعل آمال تحقيق الثراء السريع من وراء الجنون الجديد. 

وكما حاول المستثمرون دمج كلمة “إلكترونية” خلال الطفرة الترونية لتشجيع الاستثمارات، بدأ المروجون استخدام كلمات “بلوكتشين” و”مُشفَّرة” خلال فقاعة العرض الأولي للعملة. فنثروا تلك الكلمات والتنويعات اللفظية عنها وسط الأوراق البيضاء لعروضهم الأولية للعملة، وعرضوا توكنات بروتوكول ERC-20 للبيع العام، استجابة لإقبال الحشود المنتظرة لفرصة استثمار سانحة بفضاء العملات المُشفَّرة. وأُطلقت المئات، إنَّ لم يكن الآلاف، من العروض الأولية للعملة خلال تلك الفترة، جميعها على صلة ما بشكل أو بآخر بالعملات المُشفَّرة وتقنية البلوكتشين. لم يبالي المُستثمرين حقاً بأنَّ تلك العروض الأولية للعملة والمشاريع ورائها تنطوي على مجازفة عالية، إذ سيطرت عليهم آمال ارتفاع سعر تلك العملات وتحقيقهم للثراء السريع. ومع تدفق المستثمرين نحو أي عملة مُشفَّرة أو توكن بلوكتشين، تمددت القصور المبنية في الهواء أكثر وأكثر، مثلما حدث عندما انجذب المُستثمرون لأي أسهم يحمل أسمها لفظة “ترونية” خلال الطفرة الترونية. 

ومع الدفع للاستثمار في كل ما ذي صلة بالعملات المُشفَّرة والبلوكتشين، ظهر حشد من المشاريع الغريبة لدعم تلك التوكنات. فمثلما وضع المستثمرون أموالهم فيما ظنوه سيضاهي أرباح شركة ساوث سي حتى وإنَّ كانت شركات ذات مشاريع غريبة، فعل المستثمرين خلال فقاعة العرض الأولي للعملة نفس الشيء. فعلى سبيل المثال، هدف مشروع العرض الأولي للعملة بي أكواريوم PAquarium لبناء أكبر مربى مائي بالعالم، على أنَّ يستخدم المُستثمرون توكناتهم لتقرير موقع بناء المربى وكسب حصة من أرباحه. ومشروع إكس ماس كوين XmasCoin، الصندوق الهادف لبناء “مشروع غامض”، أو لَست كوين LustCoin سوق البلوكتشين الهادف لمساعدة مُستخدميه على العثور على شركاء جنسيين مع الحفاظ على سرية هوياتهم، أو مُفضلي الخاص مشروع أستركوين ASTRCoin، وهو بلوكتشين مُصدرة لعملة مُشفَّرة خاصة بها، تأمل في أنَّ تصبح العملة والأداة الاستثمارية المُختارة للفضاء.

وصل حجم الاستثمارات بالمشاريع ذات الصلة بالعروض الأولية للعملة إلى 200 مليار دولار أميركي خلال أوسع تمدد للفقاعة، وهو ما تجاوز استثمارات رأسمال المخاطر في شركات الانترنت خلال يونيو/ حزيران من عام 2017. انفجرت الفقاعة بعد ذلك بفترة قصيرة، مما أدى لانخفاض متوسط عوائد مشاريع العروض الأولية للعملة إلى -87%. وتكبد الأغلبية العظمى من مُستثمري مشاريع العروض الأولية للعملة خسائر فادحة. 

وتدخلت هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية بقوة في الفضاء المُشفَّر، مُنزلة عقوبات ثقيلة على مُروجي مشاريع العروض الأولية للعملة التي لم تلتزم بقوانين الهيئة، على النقيض مما حدث في أعقاب انفجار فقاعتي شركة ساوث سي والطفرة الترونية من قبل. ما زالت الهيئة تحاول إصلاح الفوضى المُتخلفة عن فقاعة العروض الأولية للعملة حتى يومنا هذا في الواقع. إذ تطالعنا أخبار عن اتخاذ الهيئة إجراءات تنفيذية جديدة ضد مشروع عرض أولي للعملة رافض للتعاون، أو وصولها إلى صفقة تسوية مع آخر شهرياً على الأقل. وستظل الهيئة على الأغلب تحاول فرض النظام في الفضاء لفترة طويلة، نظراً لحجم الفقاعة المهول وعدد إصدارات العروض الأولية للعملة. وهذه علامة مؤكدة على سوء سلوك كلاً من المروجين والمُستثمرين المتورطين في أحداث الفقاعة. 

الدروس المُستفادة 

يمكننا تعلم الكثير من الفقاعات المذكورة سلفاً. على سبيل المثال، دائماً ما كان هناك فريق رابح وآخر خاسر في أعقاب كل فقاعة. يضم الفريق الرابح مروجي الشركات والعروض الأولية للعملة، الذين طرحوا مشاريع هزلية للبيع العام. وهنا يبرز مروجو كلاً من شركة ساوث سي وفقاعة العرض الأولي للعملة بشكل خاص، إذ تمكن العديد منهم من تحقيق أرباح ضخمة قبل أنَّ يلوذوا بالفرار سواء إلى أوروبا أو إلى أعماق هاوية الانترنت. بينما يضم فريق الخاسرين كل هؤلاء المُستثمرين مُفرطين الثقة، الذين ظنوا أنفسهم قادرين على توقيت دخولهم للسوق وخروجهم منه بشكل مثالي. إذ فشلوا في إدراك أنَّ جنون الحشود ليس له وتيرة أو نظام. ففي النهاية، إما أنَّ يحالفك الحظ أو تُدمَّر. 

تُظهر كل من الفقاعات الثلاث المذكورة أنفاً علامات مميزة لظاهرة بناء القصور في الهواء. وعلمتنا كلاً من الفقاعة الترونية والعروض الأولية للعملة أنَّ نتوخى الحذر من الشركات التي تحاول ربط اسمها التجاري بأي طريقة بلفظة أو صناعة رائجة الشعبية. فغالباً ما تستخدم العديد من الشركات المساهمة لفظة معينة في اسمها أو تغير من اسم تداولها ليعكس أخر الاتجاهات الشائعة، فقط للتربح من وراء الاهتمام المُتنامي بهذا القطاع. إذ تُشير الزيادة المتفشية في استخدام الشركات لألفاظ “ترونية”، ولاحقاً “مُشفَّر” و”بلوكتشين”، إلى حماس السوق المبالغ فيه لاحتماليات هذه القطاعات. 

كما تعلمنا من الفقاعات الثلاث أنَّ عقلية القطيع تؤدي إلى تجاهل القواعد الأساسية، وهي الربحية والعوائد والنمو. فاحتمالية الربح، عن طريق دخول الصناعة مبكراً وبيع الأسهم لاحقاً بأسعار مرتفعة، هي ما تقود العملية الاستثمارية بدلاً عن العوامل الجوهرية للاستثمار. إذ رأينا المُستثمرين ينجذبون إلى مشاريع غير منطقية، دون أي احتمالية للتربح أو العوائد، رغم التحذيرات الصريحة في بعض الأحيان. فكل ما أكترث له هؤلاء المستثمرين هو بيع السهم أو التوكن لمستثمر آخر بسعر أعلى. ولم تشغلهم على الإطلاق حقيقة أنَّ السهم أو التوكن لم يكن له أي قيمة حقيقية. فإغراء بناء القصور في الهواء كان أقوى من كل وسائل التقييم الأُخرى. 

وشهدنا في النهاية ميلاد وتطبيق الإجراءات التنظيمية الخاصة بمجال الأوراق المالية. فبينما لم تكن هناك أية هيئات تنظيمية خلال حقبة فقاعة شركة ساوث سي، إلا أنَّ النظام الإيكولوجي التنظيمي تغير جذرياً بحلول الطفرة الترونية وفقاعة العروض الأولية للعملة فيما بعد. ورغم أنَّ هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية لم تتدخل عندما انفجرت الفقاعة الترونية، إلا أنَّنا نعلم، مما جرى خلال فقاعة العروض الأولية للعملة، أنَّ الهيئة كان لها دور هام في حماية المُستثمرين. إذ استهدفت الهيئة مُروجي العروض الأولية، بإجراء تنفيذي تلو الآخر، لإصدارهم أوراق مالية غير مسجلة إضافة لممارسات احتيالية أُخرى. وهذا يؤكد أنَّ استجابة الهيئة تتطور من فقاعة لأُخرى، غالباً عن طريق فرض المزيد من الرقابة، رغم أنَّ طرق بناء القصور في الهواء تظل نفسها. فحتى إنَّ لم تستطع الهيئة حماية المُستثمرين من اتخاذ قرارات استثمارية سيئة، فهي بالتأكيد قادرة على معاقبة مخالفات قوانين الأوراق المالية بقسوة.

تُشير كل هذه الدروس إلى حقيقة عدم تغير السلوك البشري، موضع اهتمام القطيع هو فقط ما يتغير. ورغم تغير القطاع المالي كثيراً، بداية من شركة ساوث سي إلى المشاريع الإلكترونية وصولاً إلى جنون العروض الأولية للعملة، إلا أنَّ أسس القصور المبنية في الهواء هي نفسها. فكثيراً ما تتمدد الاتجاهات الشعبية في السوق المالي وتبتلع المستثمرين، لعدم قدرتهم على مقاومة إغراء الثراء من أحدث صيحة استثمارية. ولكن احذر، فغالباً ما تتبع تلك الصيحات عواقب كارثية. لهذا تذكر كل هذه الدروس جيداً لتقرر بنفسك إذا ما كانت الصيحة القادمة تكرار آخر للتاريخ، كما هو الحال في الأغلب. 

إخلاء المسؤولية: الآراء والتحليلات والأخبار الواردة لا تعكس رأي بت شين. لا ينبغي اعتبار أي من المعلومات التي تقرأها على موقع بت شين بمثابة نصيحة استثمارية، ولا تصادق بت شين على أي مشروع قد يتم ذكره أو ربطه في هذه المقالة. يجب اعتبار شراء وتداول العملات المشفرة نشاطًا عالي المخاطر. ويرجى بذل المجهود الواجب قبل اتخاذ أي إجراء يتعلق بالمحتوى المذكور ضمن هذا التقرير. لا تتحمل بت شين أي مسؤولية في حالة خسارة الأموال في تداول العملات المشفرة.