يُمكن القول إن الخلفية البهامية لآخر أيام منصة إف تي إكس FTX قد تلاشت. لكن العلاقة الملتهبة بين الشركة التي كانت توصف بأنها في طليعة مجال التقانة المالية، وبين جزر البهاما التي يقطنها 400 ألف إنسان على بعد نحو 80 كيلومتراً عن ساحل فلوريدا، لم تكن مجرد علاقةٍ عرضية.
إذ تسلط تلك العلاقة الضوء على الكيفية التي أدّت بها منطقة الكاريبي بالكامل دور مختبر فرانكنشتاين للرأسمالية العالمية، بحسب تقرير مجلة Foreign Policy الأمريكية.
حيث كانت منطقة الكاريبي أول منطقةٍ في العالم تشعر بكامل قوة الغزو الغربي وعبودية المزارع. إذ مثّلت جزر البهاما قاعدةً أسطورية لأعمال القرصنة والتهريب خلال القرنين الـ17 والـ18. ثم شهدت صعود القوة الأمريكية ومعاناة الحرب الباردة في القرن الـ20. وتعرضت سلسلة الجزر الهشة للأعاصير، والانفجارات البركانية، والزلازل مراراً وتكراراً. وقد أحدثت جميع تلك الكوارث دماراً مهولاً، لكنها حفّزت بناء الكثير من العقارات وموجات جديدة من الاستثمار أيضاً.
إذ يجذب جمال الكاريبي الأخّاذ ملايين السياح الباحثين عن البحر والشمس كل عام. وتنتصب الكازينوهات والمنتجعات بجوار بقايا المزارع، والمصانع المتهالكة، والموانئ الحرة. بينما تأتي اليخوت الضخمة، والقوارب السريعة، والسفن السياحية، والبواخر المتجولة، ورحلات السياح الجوية، والطائرات الخاصة لتُتيح انتقال البشر والأموال والسلع.
ولا شك أنها منطقة تشهد عدم مساواة شديدة بين الدول وبعضها، وداخل كل دولة على حدة. إذ تُعَدُّ جزر البهاما من أعلى البلدان دخلاً في العالم، حيث يصل نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي هناك إلى نحو 30 ألف دولار، وتضم بعض معاقل الثراء الفاحش كمعقل فريق إف تي إكس في منتجع ألباني على جزيرة بروفيدانس الجديدة. وفي الوقت ذاته، يصل الحد الأدنى للأجور في العاصمة ناساو إلى 250 دولاراً في الأسبوع، أي ما يوازي الدول ذات الدخل المتوسط المنخفض. لكن هذا الرقم يكفي لجذب عشرات الآلاف من المهاجرين من هايتي القريبة، ليعيشوا في أكواخ العشوائيات المحيطة بكل مستعمرةٍ وبلدة بهامية.
وإذا كنت تبحث عن ملاذٍ من اللوائح الحكومية في عصر الرقابة الرقمية، فستجد أن الجزر المنخفضة المنعزلة ومهابط الطائرات الخاصة على تلك الجزر تُتيح فرصاً كبيرةً للخصوصية. لهذا تدفقت أموال المخدرات من عصابات الكارتل الكولومبية على المنطقة بالكامل في السبعينيات والثمانينيات. لكن الأموال الضخمة الحقيقية التي تُقدّر بتريليونات الدولارات لا تنجذب إلى أماكن مثل البهاما بسبب الفوضى، بل بفضل العزلة المالية المصممة بعناية والمحفوظة بكل اهتمام. حيث تمثل نموذجاً اقتصادياً للتوازن المحفوف بالمخاطر بين الفقر المدقع وبين الثراء الفاحش، وذلك داخل منطقةٍ كانت ساحة معركةٍ للتوترات الجيوسياسية في وقتٍ من الأوقات، لكنها تواجه اليوم تحدياً تاريخياً بسبب تغير المناخ.
وظهرت الملاذات الضريبية والمراكز المالية الخارجية كاستجابةٍ للمتطلبات المالية والتنظيمية في القرن الـ20. إذ جرى افتتاح أول مكتب لإدارة الثروات في ناساو خلال الثلاثينيات. ثم تلقت دفعةً إضافية في الخمسينيات، بعد أن أدت قيود الصرف ورأس المال الخاصة بنظام بريتون وودز إلى البحث عن وسائل أسهل لتحريك الدولارات. وفي غفلةٍ من بنك إنكلترا، كانت معاملات الاقتراض والإقراض تجري بودائع اليورودولار مراراً في المراكز المالية الخارجية، وبعيداً عن سلطة لوائح وزارة الخزانة الأمريكية.
لكن تداول رؤوس الأموال وتحريكها بحرية يتطلب تدوينها قانونياً، أي إنها يجب أن تحصل على الاعتراف من نظامٍ قضائي. ويُعَدُّ القانون العام الإنكليزي من القوانين الأساسية العالمية التي تُتيح إدارة العقود وحقوق الملكية بكل مرونة. ولهذا ليس من المستغرب أن العديد من الملاذات الضريبية الرئيسية تقع داخل المعاقل التي كانت تابعةً للإمبراطورية البريطانية سابقاً، سواءً في جزر القنال أو البحر الكاريبي أو حتى المحيط الهندي.
وتُمثِّل جزر البهاما حالةً استثنائيةً بحق بين الدول ذات الأغلبية السوداء بعد الاستعمار، حيث أصبحت من المركز المالية العالمية في الوقت ذاته. إذ تمتلك البهاما مزيجاً رابحاً من السياسات المستقرة والدخل المرتفع. بل وتتمتع جزر البهاما بأعلى دخل للفرد بين جميع الدول المستقلة ذات الأغلبية السوداء في العالم. أما على صعيد دول الكاريبي الكبرى، فهي الدولة الوحيدة التي عاشت منذ استقلالها دون الحاجة إلى برنامج إنقاذ من صندوق النقد الدولي.
ولهذا قد نتصور جزر البهاما كدائرة فاضلة تنعم بالاكتفاء الذاتي، بينما تُولِّد الخدمات المالية الخارجية على أراضيها ثروةً فاحشة تدعم الاستقرار الديمقراطي. لكن هذا التصور سيمثل مبالغةً في أهمية الخدمات المالية كمحركٍ للنمو الاقتصادي. إذ يساهم قطاع الخدمات المالية في البهاما بما يتراوح بين 10%-15% فقط من إجمالي الناتج المحلي، ويُوظف 2% من القوى العاملة فقط. وليست هذه الأرقام المتواضعة ناتجة عن عيبٍ ما، بل هي سمةٌ من سمات التمويل الخارجي. إذ إن الغرض من التمويل الخارجي، وما يميزه عن التمويل الداخلي، يتمثل في أنك لن تدفع أي ضرائب وستتحمل أدنى قدر من الالتزامات المحلية. وحتى في جزر كايمان التي يقطنها أقل من 80 ألف نسمة وتعتمد على الخدمات المالية بصورةٍ أكبر، لا تمثل الخدمات المالية هناك أكثر من 30% من إجمالي الناتج المحلي أيضاً.
وبعيداً عن وراثة دول الكاريبي للقانون العام الإنكليزي وتجنبها الطبيعة التصعيدية لسياسات الثورة والثورة المضادة؛ سنجد أن سر الاستقرار السياسي المحلي لتلك الأنظمة كان يتمثل في الازدهار، الذي تحقق نتاجاً لاقتصادٍ خارجيٍ آخر يعتمد على السياحة والتطوير العقاري. ولا شك أن مفتاح النجاح هنا يكمن في القرب من الولايات المتحدة. إذ تبعُد سلسلة جزر بيميني، الواقعة في أقصى غرب البهاما، نحو 80 كيلومتراً فقط عن ميامي. ويُشكّل الأمريكيون 80% من ملايين الأشخاص الذين يزورون البهاما سنوياً. بينما ترتبط عملة الدولار البهامي المحلية بالدولار الأمريكي بنسبة 1 إلى 1، فضلاً عن أمركة جميع سلاسل التوريد والمواد الغذائية ومتاجر البقالة وأنظمة المدارس البهامية. وربما يكون تاريخها الاستعماري بريطانياً في الأصل، لكن النفوذ المهيمن عليها كان أمريكياً منذ عام 1945.
وتُعتبر السياحة والتطوير العقاري بمثابة المسؤول الأول عن 60% من إجمالي الناتج المحلي البهامي. إذ تركت السياحة الجماعية والتطوير العقاري تأثيراً تحوُّلياً كبيراً على الدولة المضيفة، بعكس التمويل الخارجي. وتُعَدُّ السياحة من المجالات التي تحتاج لكثافةٍ رأسمالية، وتتطلب ضخ مليارات الدولارات في الاستثمارات الأجنبية المباشرة، قبل تعبئة قوة عاملة كبيرة. ويُعتبر نجاح السياحة والتطوير العقاري هو السر وراء استقرار جزر البهاما وجعلها جذابةً كمركز مالي خارجي، وليس استقلالها أو ديمقراطيتها أو انعدام المساواة الشديد على أراضيها. ولهذا ليست شقة البنتهاوس التي تحصّنت داخلها منصة إف تي إكس مجرد خلفيةٍ للمشهد، بل هي جزءٌ أساسيٌ من القصة.
ويؤدي هذا الأمر إلى تحقيق حالةٍ من التوازن الدقيق أيضاً. إذ يظل الاقتصاد السياحي عرضةً للصدمات المفاجئة والدرامية كما هو حال الاقتصاد المالي. فضلاً عن أن الاقتصاد السياحي يعتمد على التوظيف المحلي، والبنية التحتية المادية، وبيع وشراء الأراضي على نطاقٍ واسع. كما يعتمد على إحداث تحوُّلٍ رهيبٍ في البيئة المحلية. مما يُؤدي إلى توليد صراعٍ من نوعيةٍ خاصة لا نشهدها مع الخدمات المصرفية الخارجية. حيث يرتبط هذا الصراع بالسياسات العنصرية المشحونة التي ميّزت فترة ما بعد الاستعمار. ويتجلّى ذلك بوضوحٍ أكبر في البهاما نظراً لقربها من الولايات المتحدة وأمريكا الجنوبية، حيث يتصادم نضال الفصل العنصري والحقوق المدنية مع اضطرابات حركات استقلال البحر الكاريبي.
وفي الفترة الممتدة من الثلاثينيات وحتى الستينيات -قبل استقلال البهاما-، تصوّرت النخب المحلية وداعميها من الأجانب إقامة اقتصادٍ مالي وسياحي خارجي في شكل معقلٍ للفصل العنصري. وداخل ناساو، جمع عضوٌ بارز في مجموعةٍ رجال الأعمال البيض المعروفة باسم “Bay Street Boys” أرباحه من بيع خمر الروم في عصر حظر الكحوليات، واستغل تلك الأرباح لبناء جدارٍ بارتفاع ثلاثة أمتار ليفصل جانب البيض عن السود في المدينة. بينما نصت الوثيقة التأسيسية لمشروع فريبورت، في جزيرة بهاما الكبرى، على منح الملاك الحق في إدارة سياسة الهجرة الخاصة بهم. وشهد المجمع السياحي-الصناعي في البلاد حالة فصل عنصري صارمة. وسنجد أن مصالح العصابات، التي فرّت من كوبا إلى البهاما عام 1959، قد استوجبت تواجد أصدقائهم المقربين من فيغاس وميامي معهم على طاولات القمار.
وأدت مثل تلك الوقائع إلى إثارة المقاومة المحلية في صورة حركة للعمالة المنظمة، والحقوق المدنية، وحكم الأغلبية، والاستقلال تحت قيادة الحزب الليبرالي التقدمي. ورأس الحزب آنذاك المحامي الشاب ليندن بيندلينغ. وقد شكّل الحزب أول حكومة أغلبية في البلاد عام 1967، قبل أن يقود البهاما إلى الاستقلال في عام 1973.
بينما شهد مطلع السبعينيات سيطرة كارتل بابلو إسكوبار على إمدادات الكوكايين القادمة من بيرو. وأدركت الكارتل -مع توسُّع السوق الأمريكية- أنها بحاجةٍ لسلسة توريدٍ أكثر فعالية من الاعتماد على مهربي المخدرات، الذين يعبرون الحدود الأمريكية-المكسيكية. وقد كان حجم الطلب الأمريكي مبرراً للاستثمار في الخدمات اللوجستية التي تحتاج رؤوس أموالٍ كثيفة. بينما كانت الزوارق السريعة والطائرات الخفيفة التي تنطلق من القواعد الأمامية في البهاما بمثابة حلٍ مثالي. وفي عام 1978، سيطر مهربو كارتل ميديلين على جزيرة نورمانز كاي بالكامل، واستخدموها كمستودعٍ ومحطةٍ للتزود بالوقود. وفي عام 1988، أشارت التقديرات إلى أن ما يتراوح بين 40% و80% من شحنات الكوكايين والماريغوانا -التي تدخل الولايات المتحدة- كانت تمر عبر البهاما.
وخرج بيندلينغ في عام 1980 ليُعلن أن تهريب الكوكايين يمثل “أكبر تهديد منفرد للنسيج الاجتماعي والاقتصادي في جزر البهاما”. لكن حروب المخدرات فتحت الباب أمام التدخل الأمريكي كما حدث في بنما، وكولومبيا، ونيكارغوا.
بحلول أواخر الثمانينيات، كانت جهود الولايات المتحدة قد نجحت في إنهاء تدفق المخدرات بدرجةٍ كبيرة. وجاءت نهاية الحرب الباردة لتُغيّر الطبيعة الجيوسياسية للمنطقة. وفي عام 1992، خسر بيندلينغ وحزبه الانتخابات ليخرجوا من السلطة. لكن النخبة البهامية شرعت في تنظيف سمعة الجزيرة قبيل تغيير الحزب الحاكم في ناساو. وبدأت المصارف البهامية في زيادة الشفافية ومكافحة غسيل الأموال ظاهرياً على الأقل، تحت ضغط كبير من الولايات المتحدة ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وغيرها من الوكالات الدولية.
ولا شك أن تقديم الخدمات الخارجية ظل يُدِرُّ الأموال بالطبع. إذ كان الغرض من تلك الترتيبات يتمثل في تجنب النزاع، لهذا أصبحت الفضائح سمةً متكررةً للأعمال التجارية هناك. حيث استغل الديكتاتور التشيلي أوغستو بينوشيه اثنتين من الشركات الوهمية في البهاما بين عامي 1994 و2002، وذلك لغسيل أموال تُقدر بنحو 12 مليون دولار. وفي عام 2006، أدانت السلطات الأمريكية رئيس شركة استثمار خارجية في البهاما بتهمة غسيل أكثر من مليار دولار، وذلك من أموال التهرب الضريبي وتهريب المخدرات والتلاعب بالأوراق المالية والاحتيال المصرفي. وفي عام 2017، كشفت وثائق بارادايس عن أصحاب ملكية آلاف الشركات الخارجية التي أنشأتها شركة المحاماة Appleby. وتبيّن أن تلك الشركات تخص عملاء من النبلاء الأوروبيين، وأبناء كبار المسؤولين الصينيين، والأوليغارشيين الروس، والحكام الأفارقة، وآلاف الأثرياء الأقل شأناً.
ولم ترغب السلطات البهامية في أن تكون فاسدة، بل أرادت أن تبدو ممتثلةً للقوانين ظاهرياً على الأقل. حيث استجابت للانتقادات الأجنبية باتخاذ إجراءات ضد مجموعة مختارة من المشتبهين الواضحين، ونظّفت البلاد من الفاسدين الذين يحتلون عناوين الأخبار. وشهد عام 1990 توقيع اتفاقية تسليم المجرمين، التي تسببت في القبض على بانكمان-فرايد وتسليمه للسلطات الأمريكية. وسارعت ناساو لإصدار مجموعة من التشريعات المصرفية، بعد تعرضها لانتقادات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية عام 2000. ثم أدرجتها مجموعة العمل المالي على القائمة الرمادية عام 2018، فكثّفت البهاما ملاحقتها للمخالفين في قضايا غسيل الأموال. وبحلول عام 2022، تفاخرت البهاما بإزالتها من قائمة الاتحاد الأوروبي لغسيل الأموال وتحقيقها لدرجة مثالية في تصنيف الدول التي تحارب الجرائم المالية، على الرغم من تداعيات انهيار منصة إف تي إكس.
لكن التمويل الخارجي لطالما كان مجرد واجهةٍ أمامية، لأن الدعائم الأساسية للاقتصاد البهامي تتمثل في السياحة والتطوير العقاري. وقد كان إنعاش السياحة والتطوير العقاري ضرورياً من أجل تحقيق الاستقرار في التسعينيات.
حيث خضع نموذج الفنادق ومنتجعات الكازينو لتطويرٍ مذهل داخل جزيرة بروفيدانس الجديدة في تلك الأثناء. وشكّلت العلاقات مع فيغاس وميامي القوة المحركة لتطوير المنتجعات البهامية في الستينيات والسبعينيات. ثم جاءت الأموال والإلهام من جنوب إفريقيا خلال فترة التسعينيات.
بينما تسببت هجمات الـ11 من سبتمبر/أيلول في تعطيل السياحة الأمريكية داخل البهاما لعدة مواسم. وأدت الحرب العالمية على الإرهاب إلى حملةٍ غير مسبوقة ضد غسيل الأموال. وسارعت جزر البهاما للامتثال من جديد. وعاد النمو مرةً أخرى لكنه تعطل ثانيةً بسبب الأزمة المالية عام 2008، وما تلاها من تداعيات. واضطرت جمهورية الدومينيكان، وأنتيغوا وباربودا، وسانت كيتس ونيفيس لطلب قروض من صندوق النقد الدولي. لكن البهاما كانت أقوى من ذلك. في ما توقفت جهود التطوير العقاري، بعد طفرة نموها في التسعينيات ومطلع العقد الأول من القرن الـ21. وتراجعت الإيرادات المصرفية الخارجية. وتراجع نصيب الفرد في إجمالي الناتج المحلي بأكثر من 10% بين عامي 2007 و2017. وفي الوقت ذاته، ارتفع الإنفاق الحكومي على الدعم والأجور عقب أزمة عام 2008. ونتيجةً لذلك، ارتفعت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي لتتجاوز الـ73% عام 2014 -أي أعلى من المتوسط في منطقة الكاريبي-، بعد أن ظلت أقل من 30% خلال فترة التسعينيات.
وفي خضم بحثها عن البدائل عقب الأزمة الأوكرانية الأولى عام 2014، لعبت البهاما لفترةٍ وجيزةٍ دور المركز المالي لرؤوس الأموال الروسية المتنقلة. إذ كانت رؤوس الأموال الروسية تريد التهرب من العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، ومن جهود فلاديمير بوتين للحفاظ على ثروات الأوليغارشية داخل البلاد. لكن تلك الأموال خرجت من البهاما بنفس سرعة دخولها. إذ انكمشت الودائع الأجنبية في المصارف البهامية بمعدل 6% سنوياً أواخر العقد الثاني من القرن الجاري، وذلك خشية إدراج اسمها على القائمة الرمادية.
وبدأ وكالات التصنيف الائتماني تشعر بالقلق مع تراكم الديون وركود الناتج المحلي الإجمالي، فخفضت تصنيف جزر البهاما تدريجياً. وفي عام 2018، تبنّت البهاما إطاراً مالياً يُلزمها بألا تتجاوز الديون نسبة الـ50% من إجمالي الناتج المحلي، بناءً على نصيحةٍ من صندوق النقد الدولي. وتحدّدت هذه النسبة المنخفضة على الرغم من الارتفاع النسبي لنصيب الفرد في إجمالي الناتج المحلي، وذلك من أجل ترك مساحةٍ لتأثير الكوارث الطبيعية الكبرى وغيرها من الصدمات. ولم تكن البلاد أمام برنامج إنقاذ رسمي، لكن الخطوة مثّلت مؤشراً مقلقاً على الحاجة إلى فرض الاستقرار. كما أدت الخطة إلى اتخاذ القرار غير الشعبي بفرض ضريبة على المشتريات.
يُمكن القول إن هذا المأزق هو الذي دفع بالبهاما إلى اللجوء للعملات المشفرة. فهل كانت التقانة المالية بمثابة الإكسير السحري الذي تحتاجه البهاما لإنعاش خدماتها المالية سيئة السمعة، وسرقة الأضواء من جزر كايمان؟ في عام 2019، أصبح البنك المركزي لجزر البهاما من أوائل المصارف المركزية التي تبدأ اختبار عملةٍ رقمية. حيث أصدر البنك عملة دولار ساند Sand Dollar بشكلٍ تجريبي في جزر إكسوما وأباكو. وفي نوفمبر/تشرين الثاني عام 2020، مرّر البرلمان البهامي قانون الأصول الرقمية ومنصات التداول المسجلة، ليصبح من أوائل التشريعات العالمية التي تُتيح تسجيل الأصول الرقمية وتمنحها وضعيةً قانونية. واحتلت جزر البهاما رأس قائمة الدول التي تنظم عمل الأصول المشفرة. وقد أوضح بانكمان-فرايد أن سبب انتقال إف تي إكس إلى البهاما يتمثل في حقيقة تقنين الجزيرة لعقود مشتقات العملات المشفرة. أما السبب الآخر، فكان اعتماد البهاما على نظام متحررٍ نسبياً في التعامل مع كوفيد-19، وهي الملاحظة التي تسببت في كارثة بالنسبة للبهاما. حيث تعرض اقتصاد البلاد لكارثتين متتاليتين خلال فترةٍ زمنية قصيرة.
إذ حلّت الكارثة في صورة إعصار دوريان الذي ضرب جزر البهاما في سبتمبر/أيلول عام 2019. وتسبب إعصار الدرجة الخامسة في إلحاق أضرار جسيمة بجزر أباكو وجزيرة بهاما الكبرى، ووصلت خسائر الناتج المحلي الإجمالي للبهاما إلى نحو 25%. وبعدها ببضعة أشهر، تسببت الجائحة في شل اقتصاد السياحة العالمي. ومن الصعب تصور مزيج صدمات أكثر درامية ليضرب جزر البهاما. فارتفع الإنفاق الحكومي وانخفض الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من 16% عام 2020، بينما ارتفعت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي لتتجاوز الـ100%. لكن حكومة الحزب الليبرالي التقدمي الجديدة، التي تولت السلطة عام 2021، كانت عازمةً على الاحتفاظ برباطة جأشها. وأدت إعادة فتح البلاد سريعاً عقب الجائحة إلى جذب بانكمان-فرايد في سياسة متعمدة لاستقطاب دولارات السياح، وإنعاش الناتج المحلي الإجمالي، وتسهيل إدارة أعباء الديون. لكن عزيمة ناساو بدأت تفتر نسبياً في 2022، بعد صدمة ارتفاع أسعار النفط والمواد الغذائية، وعقب الارتفاع الحاد في معدلات الفائدة الأمريكية. وفي أوساط الخبراء المحليين الآن، بدأ الحديث باستسلام عن حاجة جزر البهاما لقرض من صندوق النقد الدولي في أقرب وقتٍ ممكن.
ولا شك أن هذه السلسلة الكارثية من الصدمات، على خلفية عقدٍ من خيبات الأمل المتتالية، هي التي أضفت جاذبيةً لا تقاوم على فكرة استقطاب إف تي إكس -التي تجاوز حجمها الـ25 مليار دولار في ذروتها. ولم تكن الصفقة مجرد صفقة مالية سرية في الخارج، أو مجرد محاولة من ملياردير لشراء جزيرة. لهذا كان وصول إف تي إكس في سبتمبر/أيلول عام 2021، مع وصول سعر البيتكوين لـ66 ألف دولار بعدها، بمثابة حدثٍ يستحق الاحتفال. حيث حضر رئيس الوزراء البهامي فيليب ديفيس لمصافحة بانكمان-فرايد، وتدشين العمل في موقع المقر المستقبلي لإف تي إكس داخل ناساو، خلال شهر أبريل/نيسان من عام 2022. كما أعلن ديفيس في يونيو/حزيران الماضي أن المقر الجديد للشركة سيكون “مساحةً تنافس حرم جوجل بليكس في الابتكار والتدريب، وتجذب المواهب البهامية والدولية على حدٍ سواء”.
ولم ينجذب كبار المسؤولين المحليين فقط إلى هذا الإكسير السحري. حيث نجح بانكمان-فرايد في استدراج بيل كلينتون وتوني بلير إلى جزر البهاما، بالإضافة إلى العديد من شخصيات وول ستريت. لكن المشهد التخيلي الابتكاري لجمهور المال تحوّل إلى كارثةٍ محرجة بنهاية المطاف.
ومع ذلك، كان انهيار إف تي إكس مجرد حدثٍ جانبي بالنسبة لجزر البهاما، ومجرد مشروع فاشل آخر من مشروعات الاستثمار الأجنبي التي نفقت داخل حدودها. حيث أعلنت وكالات التصنيف الائتماني أن انهيار إف تي إكس ليس له تأثير مادي على تصنيف سندات البلاد. ولا شك أن حقيقة استثمار الكثير من رأس المال السياسي في هذا المشروع كانت بمثابة انتصار للأمل على المنطق. لكن الأهم بالنسبة للبهاما هو استمرار انتعاشة السياحة وقطاع العقارات المحلي. ويعتمد هذا الأمر على اعتدال الطقس.
وفي ظل شروق الشمس وهبوب النسيم العليل، من السهل أن تغرينا فكرة تجاهل الكوارث الحادة كتلك التي حلّت في عامي 2019 و2020، وذلك باعتبارها مجرد سوء حظ. إذ ظهرت الجائحة في الصين النائية، وتبيّن أن أسوأ المخاوف التي أحاطت بها كانت مبالغة. بينما كان إعصار دوريان فظيعاً، لكن الأعاصير تُعَدُّ جزءاً أساسياً من الحياة في منطقة الكاريبي. وربما كان الدمار مُروّعاً، لكن مليارات الدولارات من أموال التأمين تدفقت على البلاد لتدعم ميزان المدفوعات البهامي، وتُطلق العنان للصفقات العقارية وأعمال الإنشاءات بجزيرة بهاما الكبرى وجزر أباكو. ويبدو أن الرأسمالية لا تتوقف عن العمل في مواجهة الكوارث الطبيعية، بل تدور عجلاتها للأمام أسرع من ذي قبل.
لكن هذه الرواية المريحة لها أوجه قصورها بالطبع. إذ يُدرك السكان المحليون أن إعصار دوريان كان جديداً من نوعه ونذير شؤم على نحوٍ خاص.
ومن المرجح أن تزيد الأعاصير من هذا النوع مستقبلاً، بالتزامن مع دخولنا عصر الأنثروبوسين. مما يمثل تهديداً قاتلاً بالنسبة لمنطقة البحر الكاريبي. وفي ظل انعدام الاستقرار وزيادة خطورة المياه الخلابة والطقس الدافئ العليل، ليس هناك ما يمكنه الحفاظ على دول المنطقة سوى برنامج الاستعداد لكوارث القرن الـ21، والذي يحتاج تعزيزه إلى مستويات جديدة من الاستثمار الحكومي. ولهذه الأسباب، يبدو أن المزيج المتوازن بين التمويل الخارجي والسياحة الراقية لن يكون كافياً اليوم، بعد أن كان سبباً في اجتياز جزر البهاما وجيرانها لأول نصف قرنٍ من وجودها كدول مستقلة.
إخلاء المسؤولية: الآراء والتحليلات والأخبار الواردة لا تعكس رأي بت شين. لا ينبغي اعتبار أي من المعلومات التي تقرأها على موقع بت شين بمثابة نصيحة استثمارية، ولا تصادق بت شين على أي مشروع قد يتم ذكره أو ربطه في هذه المقالة. يجب اعتبار شراء وتداول العملات المشفرة نشاطًا عالي المخاطر. ويرجى بذل المجهود الواجب قبل اتخاذ أي إجراء يتعلق بالمحتوى المذكور ضمن هذا التقرير. لا تتحمل بت شين أي مسؤولية في حالة خسارة الأموال في تداول العملات المشفرة.