بدأ الناس في التعامل مع العملات المشفرة بجديةٍ أكبر بعد انتقال السلفادور مؤخراً إلى استخدام البيتكوين (BTC) كعملةٍ قانونية. ولا شك أن أحد أهم الاعتبارات التي دفعت الرئيس نجيب بقيلة لدمج العملة داخل بلاده هو قدرتها على حل العديد من المشكلات التي تعتبر حكراً على اقتصادات أمريكا اللاتينية وأسواقها، أو مشكلة الثقة على وجه التحديد.
وربما يُدرك المشاركون في أسواق الولايات المتحدة والاقتصادات الأخرى الناطقة بالإنجليزية فوائد البيتكوين كتقنيةٍ وأداة للاستثمار، لكن عملة البيتكوين تحمل أهميةً خاصة لشعوب أمريكا اللاتينية. ويرجع ذلك إلى العديد من السوابق الاجتماعية والثقافية والتاريخية، والتي ليس من الضروري أن يشاركها أو يفهمها من يعيشون خارج المنطقة.
ولا شك أن فهم هذه الموضوعات وتداعياتها على استراتيجيات الاستثمار هو أمرٌ ضروري لأي شخصٍ يريد اكتساب أفضليةٍ غير متكافئة بين المستثمرين الناطقين بالإنجليزية. وسبب ذلك ببساطة هو أن تلك العناصر ليست مفهومةً بالكامل، ولا يُكتب عنها بوضوحٍ خارج أمريكا اللاتينية (أو بأي لغةٍ أخرى غير الإسبانية)، حسب مجلة Bitcoin Magazine الأمريكية.
ومن المؤكد أن من يعيشون داخل أمريكا اللاتينية يتعاملون مع الكثير من تلك المفاهيم على أنها من المسلمات، وبالتالي لا يجري الحديث عنها كثيراً في وسائل الإعلام. ما يعني أننا أمام معلوماتٍ داخلية يفتقر إليها المواطن الأمريكي العادي، وهي معلوماتٌ تجعل البيتكوين قراراً ذكياً لأي شخصٍ يريد الرهان على مستقبل أمريكا اللاتينية.
ولا خلاف على اعتبار أمريكا اللاتينية واحدةً من آخر جبهات التنمية الاقتصادية الحقيقية المتبقية في العالم، حيث تجذب الأموال بسرعةٍ كبيرة. إذ نقل موقع Atlantico الفرنسي أن “المنطقة شهدت دخول استثمارات قيمتها 18.6 مليار دولار حتى نهاية 2021، بزيادةٍ مذهلة قدرها 250% عند مقارنتها بالاستثمارات المسجلة عام 2020 وقدرها 5.3 مليار دولار فقط”. وقد اعتاد الباحثون عن فرص استثمار ضخمة التوافد على الاقتصادات النامية وأسواقها المالية منذ عقود، ولكن كل الظروف أصبحت مهيأةً لتحقيق نموٍ متطور في هذا الجزء من العالم حالياً أكثر من ذي قبل.
وتقدم عملة البيتكوين مزايا تتفرد بها عن محافظ الأوراق المالية الأجنبية للعديد من الأسباب. ومن أهم مزاياها أن عملة البيتكوين تعتبر أموالاً سليمة غير قابلة للمصادرة، وتُشبه الأصول المستحقة لحاملها Bearer Assets أكثر من صناديق الأسواق النقدية أو محافظ الأوراق المالية.
ولا شك أن عملة البيتكوين تجاوزت في الوقت الحالي مفهوم “العملة المشفرة”، وباتت تقدم مزايا توازي الأسهم، والعملات التقليدية، والأصول المستحقة لحاملها (مثل الذهب) في الوقت ذاته. وسرعان ما تحولت إلى فئة أصولٍ فريدة من نوعها.
إذ ليست هناك سلطةٌ مركزية واحدة يمكنها السيطرة على عملة البيتكوين، أو إيقافها، أو مصادرتها، أو تضخيمها. بل يتوزع النظام بدلاً من ذلك بين ملايين المشاركين حول الكوكب، ما يجعله نظاماً “بدون ثقة Trustless”.
نظام “بدون ثقة” هو الحل المثالي للمجتمعات التي تعاني من أزمة ثقة
يُعَدُّ كتاب “خارطة الثقافة The Culture Map” من تأليف إيرين ماير مرجعاً ممتازاً في الاختلافات المجتمعية، وهو كتابٌ تجب قراءته على أي شخصٍ يُدير عملاً تجارياً متعدد الثقافات. حيث تُشير فيه إيرين، المستشارة التجارية الدولية، إلى الاختلافات المهمة بين شركات أمريكا اللاتينية والشركات التي تقع مقراتها داخل الولايات المتحدة. إذ تتجاوز أوجه الخلاف ثقافة الشركات، وتصل إلى صلب العلاقات الشخصية بين الناس.
وتتحدث إيرين عن الاختلافات الدراماتيكية في مفهوم الثقة بين شركاء العمل من ثقافةٍ لأخرى. وشرحت الفارق بين “الثقة المعرفية” و”الثقة العاطفية”.
“تعتمد الثقة المعرفية على شعورك بالثقة في إنجازات الشخص، ومهاراته، وإمكانية الاعتماد عليه. ويكون مصدرها عقل الإنسان، حيث تُبني عادةً عبر التفاعلات في مكان العمل: نحن نعمل معاً وأنت تؤدي عملك بشكلٍ جيد، وتُثبت بمجهودك أنك شخصٌ لطيف وذكي وشفاف ويُعتمد عليه بانتظام، ولهذا أنا أثق بك.
أما الثقة العاطفية فتنبع من شعور الشخص بالتقارب العاطفي، أو التعاطف، أو الصداقة. ويكون مصدر هذا النوع من التعاطف هو قلب الإنسان: نحن نضحك معاً ونسترخي معاً، ونرى بعضنا البعض على المستوى الشخصي، وأشعر تجاهك بالعاطفة أو التعاطف وأنك تبادلني الشعور نفسه. ولهذا أنا أثق بك”.
وتعتمد دول أمريكا اللاتينية على نموذج “الثقة العاطفية” بشكلٍ أكبر. حيث أوضحت إيرين أن سكان تلك المجتمعات يحتاجون للشعور بالثقة الشخصية في شركائهم قبل العمل معهم، نظراً لتراجع الثقة بشدة في المؤسسات والنظام القضائي. وبعكس الولايات المتحدة المغرمة بالدعاوى القضائية، سنجد أن أبناء أمريكا اللاتينية لديهم سبب وجيه للقناعة بأنهم لن يجدوا ملاذاً قانونياً لاستعادة أموالهم في حال تعرضوا للاحتيال.
ولهذا سنجد أن المراجع الشخصية والترابط هي أمورٌ مهمة بطريقةٍ لا يفهمها المواطن الأمريكي العادي، لأن “العمل ليس شخصياً” في دولةٍ مثل الولايات المتحدة، لكن “العمل شخصيٌّ” للغاية في المجتمعات منخفضة الثقة.
ومن الواضح أن هذا النموذج يؤدي إلى تباطؤ العديد من العمليات. أضف إلى ذلك سجل أمريكا اللاتينية الطويل من حالات التضخم المفرط للبنوك المركزية وتفشي الفساد السياسي، وستجد نفسك تعاني من أزمة ثقةٍ أيضاً. وبذلك تُعتبر عملة البيتكوين مهمةً لأمريكا اللاتينية لأنها تُبعد المؤسسات الكبرى، والحكومات، والمؤسسات النافذة، والبنوك المركزية عن الصورة. كما تسمح بإجراء معاملات مباشرة، وفورية، ومن نظير لنظير بين الأفراد والشركات على حدٍّ سواء.
عملة البيتكوين تُلغي الحاجة إلى عامل الثقة تماماً
لا شك أن التداعيات ستكون هائلة، إذ يُعتبر بقيلة رئيساً لدولةٍ تعاني من تضخم مفرط شديد الخطورة، لدرجة أنهم تخلوا عن عملتهم، ولهذا فهناك سببٌ وجيه دفع به إلى اعتبار البيتكوين عملةً وطنية. إذ تحل العملة مشكلة عامل الثقة التي يعرفها اللاتينيون جيداً، حين تصبح كل مدخراتهم بلا قيمة في غضون شهور قليلة.
ولا خلاف على أن عملة البيتكوين متقلبة، ولكنها لن تكون متقلبةً أبداً بدرجة البوليفار الفنزويلي والبيزو الأرجنتيني أو المكسيكي والكولون السلفادوري على مدار العقود الماضية. وتدفع البيئات المتقلبة بالناس عموماً إلى البحث عن حلولٍ تقلل من أهمية الثقة في المؤسسات الخارجية، وتعزز الثقة في التعاملات الشخصية الموثوقة. ولا تحتاج عملة البيتكوين لتدخل وسطاء، أو حكومات، أو غيرها من المؤسسات في أي معاملة.
وتخيل ما سيحدث حين يجري تفعيل العقود الذكية بجدية على شبكة Liquid، إذ سنشهد حينها تطبيق العقود للمرة الأولى بطريقةٍ لم تكن ممكنةً من قبل إلا عبر أنظمة القضاء والشرطة الأمريكية الموثوقة. ما سيشجع التنمية والفرص الاقتصادية التي ظلت مخنوقةً في أمريكا اللاتينية لسنوات طويلة، حيث تُعتبر عقوداً مضمونة وقائمة على أقوى نسخة أموال صنعتها البشرية على الإطلاق.
وهنا يكمن موطن الاختلاف الثقافي الذي يُعطي قيمةً أعمق أبعاداً لعملة البيتكوين، والتي لن يستطيع غالبية الأمريكيين فهمها، حيث لا تُؤخذ هذه القيمة بعين الاعتبار في توقعاتهم لسعر العملة، ناهيك عن القدرة على نقل الأموال عبر الحدود بسهولةٍ ويُسر، وهو مطلبٌ ضروري للشركات اللاتينية ولا يشعر بأهميته غالبية الأمريكيين.
ويُمكن القول إن نظام المعاملات بدون ثقة، والقائم على أموال سليمة لا يمكن عكسها، أو مصادرتها، أو تضخيمها سيزيل العقبات التي تُعيق التنمية الاقتصادية واسعة النطاق داخل أمريكا اللاتينية، حيث تُعتبر أمريكا اللاتينية قوةً صناعية، وتضم أكثر من نصف مليار مستهلك، وتمتلك موارد طبيعية غنية، لكن العقبات الاقتصادية المعقدة حرمت القارة من استغلال كامل إمكاناتها على نطاقٍ عالمي. ومن المرجح أن نكون حالياً على مشارف استغلال القارة لتلك الإمكانات بالكامل، وتحقيق نموٍ غير مسبوق.
وإذا تحولت عملة البيتكوين إلى معيار الذهب الجديد في التنمية الاقتصادية لهذه المنطقة، فهل تريد أن يفوتك القطار؟
إخلاء المسؤولية: الآراء والتحليلات والأخبار الواردة لا تعكس رأي بت شين. لا ينبغي اعتبار أي من المعلومات التي تقرأها على موقع بت شين بمثابة نصيحة استثمارية، ولا تصادق بت شين على أي مشروع قد يتم ذكره أو ربطه في هذه المقالة. يجب اعتبار شراء وتداول العملات المشفرة نشاطًا عالي المخاطر. ويرجى بذل المجهود الواجب قبل اتخاذ أي إجراء يتعلق بالمحتوى المذكور ضمن هذا التقرير. لا تتحمل بت شين أي مسؤولية في حالة خسارة الأموال في تداول العملات المشفرة.