يُجادل نجيب بقيلة بأنّ تبنّي بلاده لعملة البيتكوين (BTC) قد جاء بهدف تحفيز النمو وتقليل الرسوم التي يدفعها أبناء السلفادور المغتربين من أجل إرسال الحوالات إلى أرض الوطن، إذ تُشكل هذه الحوالات نحو ربع الناتج القومي الإجمالي للبلاد (22%).
كما يقول بقيلة – بحسب موقع Crypto Slate البريطاني – إنّ تبنّي البيتكوين قد يوفر على أبناء شعبه 400 مليون دولار سنوياً، وهو رقمٌ تؤكده شركة PriceWaterhouseCoopers التي قدرت أنّ تبنّي البنك المركزي للعملة الرقمية سيخفض تكاليف الحوالات بمقدار النصف.
لكن المؤسسات المالية الكبرى نظرت لهذه الخطوة بعيونٍ متشائمة. إذ أعرب البنك الدولي عن مخاوفه إزاء التأثير البيئي للعملة، بينما جادل صندوق النقد الدولي بأنّ تبنّي السلفادور للعملة قد يتسبّب في زعزعة استقرار الاقتصاد وتعقيد جهود مكافحة غسيل الأموال. وفي نوفمبر/تشرين الثاني، حثّ صندوق النقد الدولي السلفادور على التوقف عن استخدام البيتكوين كعملةٍ رسمية.
وقد تكون بعض هذه المخاوف منطقية لأنّ أي انحرافٍ عن الوضع الراهن سوف يُعتبر مخاطرة. ولكن المخاطرة تبدو محدودةً في هذه الحالة. ففي نهاية المطاف، ليست عملة البيتكوين هي العملة الرسمية الوحيدة في البلاد: حيث ما يزال الدولار الأمريكي عملة البلاد الرسمية الأولى.
ناهيك عن أنّنا نشهد تأثيراً إيجابياً بالفعل. فحين أعلن بقيلة عن خطوة البيتكوين في يونيو/حزيران، تنبّأ المحللون بنمو الناتج القومي الإجمالي في السلفادور بنسبة 6% خلال العام الجاري. لكن تلك التقديرات ارتفعت بشكلٍ كبير بعد المراجعة، لدرجة أن صندوق النقد الدولي توقع نمواً بنسبة 10% في عام 2021.
والأهم من ذلك هو أن حجم غسيل الأموال الذي يجري عبر النظام المالي التقليدي أكبر بكثير من ذلك الذي يجري عبر شبكات البلوكتشين، التي تحتفظ بسجلٍ عام لكل معاملة. إذ صارت عملة البيتكوين من أسوأ وسائل غسيل الأموال بعد اهتمام السلطات المكثف بالمعاملات المشفرة، وذلك بفضل منظمات الإبلاغ عن المخالفات مثل Ciphertrace وElliptic. ولهذا تمكنت وزارة العدل الأمريكية من تعقب واستعادة غالبية أموال الفدية التي دُفعت لمخترقي شركة Colonial Pipeline.
لماذا إذن يأخذ كبار المسؤولين والمؤسسات موقفاً سلبياً لهذه الدرجة من خطوة السلفادور؟ سبب ذلك هو جيوسياسيٌ في الواقع. حيث أنّ تبنّي العملة المشفرة قد يكون سبيل السلفادور لاستعادة سيادتها المالية، والحد من النفوذ النقدي الذي تفرضه الولايات المتحدة عليها.
ففي عام 2001، تخلت السلفادور عن عملتها الكولون، وتحوّلت لاستخدام الدولار الأمريكي. وقد ساعد ذلك القرار البلاد على تجنّب التضخم المستشري الذي ضرب العديد من دول أمريكا اللاتينية. لكنه أدّى أيضاً إلى ضياع الاستقلال المالي، وترك السلفادور تحت رحمة قرارات الاحتياطي الفيدرالي، التي أسهمت بدورها في تآكل السيادة السياسية.
وعلى القدر نفسه من الأهمية تأتي مسألةٌ لا يدور الحديث حولها كثيراً، وهي أنّ بنوك السلفادور تحتاج لإجراء المعاملات مع البنوك الأمريكية الخاضعة لوزارة الخزانة. وبهذا يُمكن لوزارة الخزانة في أي لحظة أن تفرض عقوبات على بنوك السلفادور وتقطع اتصالها بالنظام المالي الأمريكي.
وهذه هي طريقة عمل العقوبات الأمريكية عادةً، حيث تمنع البنوك الأمريكية والمؤسسات المتعاملة معها من إجراء معاملات تجارية مع الكيانات المدرجة على القائمة السوداء. ويُعَدُّ هذا النفوذ المالي العالمي من أهم مصادر النفوذ الأمريكي، حيث يمنح واشنطن القدرة على توجيه الكيانات التنظيمية العالمية ضد غسيل الأموال، وتمويل الإرهاب، وغيرها من المساعي المالية الشائنة.
كما يُمكن هذا النفوذ واشنطن من التحكم في النتائج الجيوسياسية، نظراً لقدرة الاحتياطي الفيدرالي أن يضغط على الدول لتحتضن الشركات الأمريكية أو لتهمش الشخصيات السياسية غير المتوافقة مع المصالحة الأمريكية. وهذا نفوذٌ هائل للغاية وله تداعياتٌ كبيرة.
إذ استخدمت الولايات المتحدة العقوبات لفرض الحصار على كوبا منذ عام 1962 مثلاً، وكبّدت الاقتصاد الكوبي نحو 130 مليار دولار. ومؤخراً، فرضت عقوبات على فنزويلا تمنع دول العالم المتقدم من شراء نفط البلاد، مما قوّض الاقتصاد. لكن العديد من المراقبين يرون أن هذه العقوبات عادلة لأنّ هذه الأنظمة لها تاريخٌ من القمع.
ومع ذلك، فلا شكّ أنّ زعماء تلك الدول لم يستمتعوا بالولايات المتحدة وهي تسلب سلطتهم أمام العالم. كما أنّ للولايات المتحدة هي الأخرى تاريخٌ طويل من السياسيات الإشكالية في التعامل مع المنطقة: فمن بيرون في الأرجنتين إلى بينوشيه في تشيلي؛ ليس سكان أمريكا اللاتينية بحاجةٍ للنظر بعيداً من أجل أن تنتابهم مشاعر الكراهية تجاه القوة العظمى العالمية.
ومع أخذ ذلك بعين الاعتبار، فإنّ تبنّي بقيلة للبيتكوين قد يُمثّل محاولةً لإعادة فرض السيادة الوطنية بتعزيز استقلال البلاد المالي، أكثر من كونه متعلقاً بالنمو الاقتصادي. وإذا دخلت البلاد في حالة التبني الجماعي لعملة البيتكوين، فسوف يتمكّن أبناء السلفادور من إجراء المعاملات التجارية والتحويلات الدولية حتى وإن فرضت الولايات المتحدة عقوبات على الكيانات السلفادورية المحلية أو قطعت اتصال بنوك السلفادور بالنظام المالي الأمريكي.
ولن يعرف أحد حقيقة نوايا بقيلة، باستثناء بقيلة نفسه. فربما يهدف إلى قطع اتصال بلاده عن النظام المالي العالمي حتى تتمكن حكومته من قمع شعب السلفادور دون خوفٍ من العقاب. وهناك بعض العلامات التي قد تُلمح إلى ذلك. إذ إنّ التفاصيل الكاملة حول سياسة البيتكوين في السلفادور تُعتبر من أسرار الدولة. كما فرض بقيلة السرية على كافة معلومات محفظة شيفو Chivo، التي تم تمويلها من أموال دافعي الضرائب ولكنها تخضع لإشراف شركةٍ خاصة تحمل اسماً مستعاراً.
وحتى في هذه الحالة، لا يدور السؤال الأهم هنا حول ما إذا كانت السلفادور قد قررت تبنّي البيتكوين بنيةٍ طيبة أم خبيثة، بل يتعلّق بما إذا كنا نشهد أخيراً دولةً تتبنى عملةً مشفرة كحلٍ بديل لمواجهة القيود المالية العالمية التي تفرضها الدول القوية على الدول الضعيفة منذ زمن.
وإذا حققت السلفادور اسقلالاً مالياً كاملاً بفضل تبني البيتكوين، فسوف تلحق بها الكثير من الدول على الأرجح. مما قد يعني أنّ مراكز القوى الحالية للنظام المالي العالمي يجب أن تخشى ثورة العملات المشفرة المقبلة.
إخلاء المسؤولية: الآراء والتحليلات والأخبار الواردة لا تعكس رأي بت شين. لا ينبغي اعتبار أي من المعلومات التي تقرأها على موقع بت شين بمثابة نصيحة استثمارية، ولا تصادق بت شين على أي مشروع قد يتم ذكره أو ربطه في هذه المقالة. يجب اعتبار شراء وتداول العملات المشفرة نشاطًا عالي المخاطر. ويرجى بذل المجهود الواجب قبل اتخاذ أي إجراء يتعلق بالمحتوى المذكور ضمن هذا التقرير. لا تتحمل بت شين أي مسؤولية في حالة خسارة الأموال في تداول العملات المشفرة.