سلطت المصادرة التي حدثت مؤخراً لسفينة شحن مملوكة لبنك جي بي مورغان JP Morgan، التي كانت عبارة عن سفينة محملة بـ20 طن من الكوكايين بحسب آخر التقارير، الضوء على مخاطر تورط البنوك في الأنشطة غير المشروعة؛ سواءً أكان ذلك عن غير عمد أم لا. ومع أنَّ السلطات الأميركية قد أفرجت عن السفينة، وتحمل اسم إم إس سي غايان MSC Gayane، بعد أن دفعت كلٌ من الجهة المالكة لها، وهي ذراع بنك جي بي مورغان المختصة بإدارة الأصول، والجهة المشغَّلة لها، وهي شركة الشحن البحري مديترينيان شيبينغ كومباني Mediterranean Shipping Company، مبلغ 50 مليون دولار أميركي نقداً وبسندات كفالة، فإنَّ الوصمة التي خلفَّتها باقية لا تنمحي، لا سيما وأنَّ هذه ليست الوصمة الوحيدة: فغسل الأموال لصالح عصابات تهريب المخدرات وتحويل الأموال لصالح الإرهابيين وتجَّار السلاح والأنظمة الديكتاتورية تُعد من بين الخطايا التي تراكمت على عاتق البنوك على مر السنين. مع ذلك، فإنَّ التسويات القضائية والغرامات التي تُقدَّر بمليارات الدولارات الأميركية تساعد المؤسسات المالية الكبرى في أحيان كثيرة على تجنَّب الملاحقة القضائية والإدانة وأوصاف مثل “بنوك المخدرات”.
وباء غسل الأموال
وفقاً لدراسة أجراها صندوق النقد الدولي IMF ومكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة Unodc في عام 2017، يغسل المجرمون الأموال بمبلغ يصل إلى 2.1 تريليون دولار أميركي في كل سنة. صحيح أنَّه لا يزال من العسير للغاية تقدير المبلغ بدقة، إلا أنَّ مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة يعتقد أنَّه يُقدَّر بنسبة تتراوح ما بين 2 و5% من الناتج المحلي الإجمالي GDP العالمي.
لا شك أنَّ تقدم التقنيات المالية، بما فيها العملات المشفَّرة، قد أدى إلى زيادة سرعة وسهولة تحريك الأموال في جميع أنحاء العالم. مع ذلك، ذكرت المنظمة التطورات المتعلقة بالنظام المالي التقليدي دوناً عن سواها لتبرير الصعوبة المتزايدة في العثور على الأصول الإجرامية وتجميدها ومصادرتها. ويرى مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة أنَّ “دولرة” الأسواق السوداء وإلغاء القيود المالية أو تخفيفها وانتشار الملاذات المالية هي العوامل الرئيسية وراء ذلك.
وعليه، فقد استثمرت العديد من البنوك في تنفيذ أنظمة باهظة التكلفة لمراقبة المعاملات المالية من المفترض أنَّها مصممة عمداً كي تكشف عن السلوكيات المشبوهة من جانب عملائها، فضلاً عن كونها مبرمجة لدق ناقوس الخطر كلما لوحظت أنماط مُحددة مسبقاً، مثل: إيداع مبالغ مالية ضخمة أو إجراء عدة عمليات تحويل من حساب بنكي واحد وفي تتابع سريع، وغيرها من المعاملات المالية المعقدة.
لكن في الحقيقة، فإنَّ الغالبية العظمى من تلك الإنذارات التلقائية، 95% منها في الولايات المتحدة، تُقيَّم على أنَّها “نتائج إيجابية كاذبة”، بحسب بحث أجرته وحدة الاستخبارات التنظيمية لدى وكالة طومسون رويترز الإخبارية Thomson Reuters Regulatory Intelligence في العام الماضي، 2018؛ ونحو 98% منها لا تُذكر في أي تقارير صادرة عن النشاطات المشبوهة. في الوقت نفسه، تخفق المليارات الكامنة وراء أنظمة البرمجيات تلك في التصدي لغاسلي الأموال الكبار؛ نظراً إلى أنَّهم يستعينون بتقنيات متطورة تمكنهم من تجنب الاكتشاف. ومن بين غاسلو الأموال هؤلاء: عصابات تهريب المخدرات والإرهابيين والدول المارقة.
اتهام المجموعة المصرفية السويدية سويدبنك Swedbank بتحريك الأموال لصالح برنامج لأسلحة الدمار الشامل WMD
منذ عام 2018، واتهامات غسل الأموال تطارد عدداً من البنوك الكبرى، أغلبها أوروبي. سويدبنك Swedbank هو أحد المؤسسات المالية المتورطة في الفضيحة التي كان محورها عمليات بنك دانسك الدنماركي Danske Bank في دول البلطيق، وقد صار من الواجب عليه الآن أن يواجه فصلاً آخر من هذه المحنة؛ إذ كشف تقرير جديد نشرته صحيفة داغنز إندستري Dagens Industri أنَّ البنك السويدي الرائد قد حدد معاملات مالية من عملائه إلى بنك إف بي إم إي FBME الذي أغلق أبوابه منذ سنتين، أي في عام 2017، بسبب صلته ببرنامج سوريا للأسلحة الكيماوية.
اكتُشفت المعاملات المالية المشبوهة أثناء تحقيق داخلي في العام الماضي، ولُفتت عناية إدارة البنك العليا إليها، وفقاً للمنشور. من غير الواضح متى أُجريت تلك المعاملات المالية بالضبط؛ الأمر الذي يجعل من الصعب تحديد ما إذا كانت قد خرقت العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على النظام الحاكم في دمشق.
أُجريت المعاملات المالية بين مالكي حسابات لدى فرع بنك سويدبنك في ليتوانيا (إحدى دول البلطيق) وعميل أو أكثر لدى بنك إف بي إم إي. جدير بالذكر أنَّ بنك إف بي إم إي يتخذ من العاصمة التنزانية دار السلام مقراً رئيسياً له، وأنَّه كان مرتبطاً في ما مضى بالإتجار بالسلاح والمخدرات وبتمويل الإرهاب وغسل الأموال. نتيجةً لذلك، حُرم البنك من إمكانية الوصول إلى القطاع المصرفي في الولايات المتحدة وأُلغي ترخيصه من جانب البنك المركزي في تنزانيا عام 2017.
يأتي مقال صحيفة داغنز إندستري خلال فترة صعبة على سويدبنك: حيث عرضت هيئة الإذاعة الوطنية السويدية SVT في شهر فبراير/ شباط من ذلك العام فيلماً وثائقياً يقدم تفاصيل عن تورط البنك في معاملات مالية لغسل الأموال مع بنك دانسك في دول البلطيق. وبعد كشف النقاب عن تلك التفاصيل، تخلت المدير التنفيذي للبنك بيرجيت بونسين ورئيس مجلس الإدارة لارس إيدير مارك عن منصبيهما.
تغريم البنوك المليارات بسبب انتهاكها قوانين مكافحة غسل الأموال
كثيراً ما ينتقد النظام قطاع العملات المشفَّرة لأنَّه لا يتخذ ما يكفي من الإجراءات لمنع المخاطر المرتبطة بغسل الأموال وتمويل الإرهاب التي تصاحب استخدام العملات المشفَّرة اللامركزية. ولكن في الواقع، القطاع المالي التقليدي هو من لديه سجل أطول بكثير حافل بتلك الانتهاكات: فالفضائح المتعلقة بتقديم الخدمات للجهات الفاعلة ذات النوايا السيئة ليست بالجديدة، والفشل في التصدي لغسل الأموال وحركة الأموال غير المشروعة ليس بالظاهرة الحديثة.
إذ كثيراً ما تسدد البنوك غرامات باهظة مقابل انتهاكاتها لقوانين مكافحة غسل الأموال AML ومكافحة تمويل الإرهاب CTF، وقد سُجلت عدة قضايا تورطت فيها مؤسسات مالية ضخمة في عام 2018 وحده؛ مما يشير إمَّا إلى عدم مقدرة أنظمة مكافحة غسل الأموال لدى تلك البنوك على التكيف مع الصعوبات والتحديات أو إلى انعدام رغبتها في التصدي للنشاطات الإجرامية ببساطة.
إنَّ قائمة أسماء البنوك التي فرضت عليها الجهات التنظيمية عقوبات في العام الماضي طويلة للغاية: دفع بنك آي إن جي ING Bank غرامة قيمتها 900 مليون دولار أميركي في هولندا بسبب إخفاقه في التصدي لغسل الأموال وغيرها من الممارسات ذات النوايا السيئة في الفترة من العام 2010 وحتى العام 2016. تضمنت إحدى الحالات أيضاً رشاوى بمبلغ 55 مليون دولار أميركي دفعتها الشركة الروسية المشغَّلة للهاتف المحمول فيمبلكوم Vimpelcom إلى ابنة الرئيس الأوزبكي، وفقاً لتقرير نشرته البوابة الإلكترونية لمنظمة النزاهة المالية العالمية Global Financial Integrity.
هناك أيضاً مؤسسة هولندية أخرى، وهي رابوبنك Rabobank، دفعت 369 مليون دولار أميركي إلى حكومة الولايات المتحدة مقابل السماح بإيداع مئات الملايين من الدولارات نقداً من المكسيك في فروعها في ولاية كاليفورنيا الأميركية، على أن تُحوَّل إلى مكان آخر. حدث ذلك رغم وجود دلالات جلية على ارتباط تلك الأموال بالإتجار بالمخدرات وغيرها من ممارسات غسل الأموال المرتبطة بالجريمة المُنظمة.
مرة أخرى في العام الماضي، وافقت مؤسسة مصرفية أميركية Bancorp على سداد غرامات بقيمة 613 مليون دولار أميركي استُخدمت في تسوية تهمتين جنائيتين؛ بعد أن اتُهم البنك بالفشل في التصدي لممارسات غسل الأموال من خلال التحقيق في عدد محدود للغاية من المعاملات المالية المشبوهة. بحسب وزارة العدل الأميركية، توجب فحص ما يصل إلى 80% من تلك المعاملات، ولكنَّ البنك لم يتخذ أي خطوات لزيادة تمويل وحجم فريق مكافحة غسل الأموال لديه.
أمَّا المؤسسة المصرفية السويسرية العملاقة يو بي إس UBS، فقد حصلت على غرامة قيمتها 15 مليون دولار أميركي في الولايات المتحدة مقابل إخفاقها في تقديم تقارير عن النشاطات المشبوهة: ففي الفترة ما بين العامين 2011 و2013، حوَّل فرعها في مدينة سان دييغو الأميركية مبلغ 9 مليارات دولار أميركي بين حسابات 6 آلاف شخص من غير المقيمين
في الولايات المتحدة، من المكسيك وفنزويلا وبنما. فقد وجدت هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية SEC أنَّ محللي البنك كانوا يسمحون بإجراء المعاملات المالية حتى مع وجود عدة دلائل مريبة.
وفي مكان آخر، ثبتت مسؤولية أكبر بنك في أستراليا عن ما لا يقل عن 50 ألف انتهاك لقوانين مكافحة غسل الأموال ومكافحة تمويل الإرهاب في الفترة من العام 2012 إلى العام 2015. كانت تلك الانتهاكات مرتبطة بنوع من أجهزة الصرَّاف الآلي ATM الذكية تُسمى أجهزة الإيداع الذكية IDMs، سمحت لمستخدميها بإيداع الودائع النقدية في حساباتهم المصرفية دون اسم وبعدد غير محدود من المعاملات المالية. تعتقد الجهات التنظيمية أنَّها قد استُخدمت من مجرمين لغسل أموال تُقدَّر بـ 75 مليون دولار أميركي. وعليه، وافق بنك كومنولث الأسترالي Commonwealth Bank of Australia على سداد 534 مليون دولار أميركي كعقوبات.
من بين الأمثلة الأخرى الجديرة بالذكر التي تعود للعقدين الماضيين من الزمن: بنك جي بي مورغان تشيس JP Morgan Chase، الذي دفع أكثر من ملياريّ دولار أميركي في عام 2014 كتسوية قضائية بعد تجاهله تحذيرات بشأن برنارد مادوف، وهو خبير مالي لدى بورصة وول ستريت Wall Street كان يمتلك حساباً لدى البنك واستخدمه لتنفيذ خدعة بونزي. مجموعة سيتي غروب Citigroup هي اسم آخر في قائمة جمعتها وكالة بلومبرغ الإخبارية Bloomberg؛ إذ سدد غرامات بقيمة 237 مليون دولار أميركي مقابل عمليات المجموعة المصرفية التابعة لها بانامكس يو إس أيه Banamex USA، إذ أجرت معاملات مالية تُقدَّر قيمتها بنحو 8.8 مليار دولار أميركي بإشراف محدود خلال فترة زمنية مدتها خمس سنوات حتى عام 2012.
عصابات تهريب المخدرات تستعين بالبنوك الأميركية في غسل عائداتها غير المشروعة
سددت شركة واتشوفيا Wachovia المملوكة لشركة الخدمات المالية الأميركية العملاقة ولز فارغو آند كومباني Wells Fargo غرامةً بقيمة 160 مليون دولار أميركي لإجراءها تحويلات بنكية بمبلغ 373 مليار دولار أميركي من غرفات العملات المكسيكية في الفترة من العام 2004 وحتى العام 2007؛ إذ تعتقد السلطات الأميركية أنَّ عصابات تهريب المخدرات قد استعانت بحسابات لدى البنك في غسل أموالها غير المشروعة وتمويل عملياتها الإجرامية. ووفقاً لتحقيق فيدرالي في عصابة المافيا المكسكية الشهيرة لوس زيتاس Los Zetas، تناولته تقارير وسائل الإعلام في عام 2012، من المزمع أنَّ العصابة قد استعانت بحسابات لدى بنك أوف أميركا Bank of America لإجراء عملية غسل أموال لعائداتها من الإتجار بالهيروين. بنك إتش إس بي سي HSBC، أكبر بنك أوروبي على الإطلاق، بدوره قد استُخدم في عمليات غسل الأموال من جانب عصابات تهريب المخدرات المنتمية لأميركا اللاتينية. وبالتالي، اضطر البنك لسداد 1.9 مليار دولار أميركي بسبب إخفاقه في تنفيذ عمليات المراقبة كما ينبغي على تحويلات بمبلغ زاد على 670 مليار دولار أميركي من المكسيك ومشتريات بالدولار الأميركي بقيمة 9.4 مليار دولار أميركي.
ستاندرد تشارترد Standard Chartered هو بنك آخر يتخذ من العاصمة البريطانية لندن مقراً له ويعمل في أكثر من 70 دولة فُرضت عليه غرامة بقيمة إجمالية بلغت 967 مليون دولار أميركي بسبب انتهاكه العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران في عام ،2012، وبسبب ضعف ضوابط مكافحة غسل الأموال لديه في عام 2014. أمَّا دويتشه بنك Deutsche Bank، وهو أكبر بنك ألماني على الإطلاق، فقد سدد للسلطات في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة غرامات بقيمة 670 مليون دولار أميركي لأنَّه سمح لمواطنين روس بإخراج مليارات الدولارات من خلال عمليات تداول بالمحاكاة Mirror Trades أُجريت عبر مكتبه في العاصمة الروسية موسكو. كذلك، حصل البنك التجاري الألماني Commerzbank، وهو بنك آخر عملاق في ألمانيا، على غرامة بمبلغ 1.45 مليار دولار أميركي في عام 2015 بسبب فشله في إطلاع السلطات الأميركية عن معلومات تتعلق بتعاملات أحد عملائه كان خاضعاً للعقوبات. واتُهمت المؤسسة أيضاً بإجراء معاملات مالية بمبلغ تجاوز 250 مليار دولار أميركي طلبتها جهات إيرانية وسودانية في الفترة ما بين العامين 2002 و2008.
تجدر الإشارة إلى أنَّه، في كثير من الحالات السابقة، كانت الغرامات تُسدد ضمن تسويات قضائية ساعدت البنوك على تجنَّب مزيد من الملاحقة القضائية. كذلك، فإنَّ غياب الأحكام بالسجن على المصرفيين المتورطين في تسهيل مخططات غسل الأموال نيابةً عن تجَّار المخدرات والجهات الخاضعة للعقوبات هو أمر يخلَّف أثراً قوياً؛ إذ يتضح أنَّ عصابات المافيا والجهات الفاعلة ذات النوايا السيئة تواجه صعوبات في الوصول إلى خدمات البنك العادية أقل بكثير من شركات العملات المشفَّرة التي تُدير أعمال قانونية ومشروعة تماماً، التي لا تزال تواجه صعوبات عند محاولة فتح حساب مصرفي في العديد من الولايات القضائية.
إخلاء المسؤولية: الآراء والتحليلات والأخبار الواردة لا تعكس رأي بت شين. لا ينبغي اعتبار أي من المعلومات التي تقرأها على موقع بت شين بمثابة نصيحة استثمارية، ولا تصادق بت شين على أي مشروع قد يتم ذكره أو ربطه في هذه المقالة. يجب اعتبار شراء وتداول العملات المشفرة نشاطًا عالي المخاطر. ويرجى بذل المجهود الواجب قبل اتخاذ أي إجراء يتعلق بالمحتوى المذكور ضمن هذا التقرير. لا تتحمل بت شين أي مسؤولية في حالة خسارة الأموال في تداول العملات المشفرة.