لا شك أنَّ انهيار ثلاثة بنوك في ثلاث قارات مختلفة يشير إلى أنَّ هناك أزمة عالمية جديدة في طور التشكيل. ولكن في الوقت نفسه، لعل ذلك يبرهن على أنَّ الأزمة المالية الأخيرة لم تنتهِ حقًا، وأنَّ الأدوات المُستخدمة في إدارة الاقتصاد العالمي لا تؤدي عملها ببساطة.  

انهيار مصرفي لبنك في الولايات المتحدة لأول مرة منذ عام 2017

لقد مرَّ أكثر من 10 أعوام على انهيار بنك ليمان براذرز Lehman Brothers الذي أحرق نحو 10 تريليون دولار أميركي كقيمة سوقية لأسهمه العالمية في غضون شهر واحد. في ذلك الوقت، تقرر أنَّ البنوك، الصغيرة والكبيرة على حد السواء، قد أوقعت أنفسها في ورطة بسبب الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري؛ بعدما تبين أن سعرها كان مبالغاً فيه 

إلى حد كبير. 

والآن، وبعد دفعات من التيسير الكمي وعمليات الإنقاذ الضخمة للبنوك التي بدت “أكبر من أن تنهار”، ظهرت مؤشرات على أنَّ النظام المصرفي التقليدي في طريقه إلى الكارثة الكبرى التالية. ويبقى السؤال الأساسي الذي لا إجابة عنه حتى الآن هو: ما الذي سيتسبب في حدوثها؟ 

حذَّر محللون من أن هذا ربما يكون أعلى مستوى قياسي حققه الدين العالمي: إذ يبلغ حالياً أكثر من 240 تريليون دولار أميركي حالياً؛ أي ثلاثة أضعاف حجم الاقتصاد العالمي. في حين أشار آخرون إلى نظام الصين المالي المُثقل بالديون. أمَّا القطاع المصرفي في قارة أوروبا، فبقدر ما يبدو أنَّه يتمتع بتقليص المديونية، مازال يعاني عدة مشكلات لم تُحل بعد، لا سيما المشكلات الحادة والمزمنة التي تعانيها بعض بلدان الجهة الجنوبية من القارة. 

لكن عندما تعطس أميركا، يُصاب العالم كله بالزكام عادةً، مثلما يقول المثل المعروف. وفي هذا العام، 2019، سجلت الولايات المتحدة أول انهيار مصرفي فيها منذ عام 2017: ففي اليوم الأخير من شهر مايو/ أيار، أغلقت إدارة الخدمات المصرفية بولاية تكساس الأميركية بنك إنلو ستيت  Enloe State Bank. بعد ذلك، اتخذت الوكالة الفيدرالية لضمان الودائع FDIC خطوات للترتيب لتسّلم بنك ليجند نورث أميركا Legend Bank, N.A الودائع المضمونة لدى بنك إنلو ستيت. 

بنك إنلو ستيت عبارة عن مؤسسة صغيرة لها فرع واحد فقط، وهو يسيطر على أصول تتجاوز قيمتها 36 مليون دولار أميركي بقليل، وودائع بقيمة 31 مليون دولار أميركي فقط. بغض النظر، لا شك أنَّ انهياره يُعد حدثاً جديراً بالذكر. ووفقاً لبيانات وكالة الفيدرالية لضمان الودائع، فقد بلغت الانهيارات المصرفية في الولايات المتحدة ذروتها في عام 2010؛ حيث أغلق 157 بنك أبوابه. منذ ذلك الحين، وعدد المؤسسات المالية التي تتعرض للانهيار في انخفاض مستمر: بواقع 92 بنكاً في عام 2011، ثم 51 بنكاً في عام 2012، و24 بنكاً في عام 2013، و18 بنكاً في عام 2014، وثمانية بنوك في عام 2016، وخمس بنوك في عام 2016، وست بنوك في عام 2017، وأخيراً أبرزها على الإطلاق؛ صفر بنوك في عام 2018. 

وفي ما يلي صورة تبين ملخص إغلاق البنوك في الفترة من العام 2001 وحتى العام 2019

من جانبها، تحتفظ الوكالة الفيدرالية لضمان الودائع بقاعدة بيانات تضم جميع البنوك المنهارة في الولايات المتحدة منذ يوم الأول من أكتوبر/ تشرين الأول عام 2000. عند الإطلاع عليها، نجد أنَّها قائمة مفزعة مكونة من 23 صفحة تضم أسماء المؤسسات التي اضطرت لأسباب متنوعة أن تتخلى عن أعمالها وتطلب الإنقاذ؛ بحيث يحتوي على الجدول على اسم البنك المتعثر، والمدينة والولاية التي يوجد بها مقره، ورقم اعتماده، وتاريخ الإغلاق، والمؤسسة التي استحوذت عليه. تضم القائمة بالفعل رقماً مهولاً من البنوك، 556 بنكاً، تمت إضافتها منذ بداية الألفية. 

لا شك أنَّ حقيقة أنَّه لم تنهار أية بنوك في عام 2018 تشير إلى أنَّ القطاع المصرفي
في الولايات المتحدة قد صار أقوى منذ حدوث ما يُعرف الآن باسم “الركود الكبير”. مع ذلك، فإنَّ حقيقة أنَّ هناك بنك قد انهار هذا العام، 2019، تبرهن على أنَّه لا تزال هناك مشكلات ونقاط ضعف كامنة في السوق؛ ولابد من معالجتها.

من الجدير بالذكر أنَّ القطاع يشهد عملية توحيد جارية؛ فمعظم البنوك المتعثرة اشترتها مؤسسات أكبر. أيضاً على خلفية التوسّع الاقتصادي وتخفيض الضرائب على الشركات وتدابير السلامة الجديدة، أفادت تقارير بأنَّه من المتوقع لأكبر ستة بنوك منها أن تحقق رقماً قياسياً من الأرباح يفوق 100 مليار دولار أميركي. السؤال هو: هل التوسّع في الحجم سيكون أفضل عندما تضرب الأزمة القادمة؟ 

إنقاذ أعرق بنك في العالم في مخالفة لقوانين أوروبا

حتى مع التغييرات الإيجابية التي نُفذّت على مدى العقد الماضي، لا يزال النظام المصرفي التقليدي يواجه العديد من الصعوبات التي بدأت تتفاقم مرة أخرى: فأوروبا، التي اتبعت نهجاً أكثر تحفظاً في التعامل مع أزمات عام 2008 خلق بيئة أكثر أماناً بوجه عام، مازالت تصارع للتغلب على المشكلات التي لطالما أرّقت البنوك في العديد من الدول الجنوبية من أعضاء الاتحاد الأوروبي التي تعرضت لضربة قوية من جراء الانهيار المالي العالمي منذ 10 سنوات مضت. 

ولكن بعد أن أمرت الحكومات بعمليات إنقاذ ضخمة للبنوك واستحدثت لوائح تنظيمية أكثر صرامة، تحسّنت أرصدة رأس المال لدى العديد من البنوك الأوروبية. مع ذلك، هناك بلدان مثل اليونان وإيطاليا مستمرة في تسجيل نسب مرتفعة من القروض المتعثرة. في الوقت نفسه، وعلى النقيض من الولايات المتحدة، تشهد البنوك الأكبر حجماً في تلك البلدان وفي الاقتصادات الأكثر استقراراً انخفاضاً في الأرباح، لا بسبب حصتها الكبيرة من القروض عديمة الأداء فقط، بل أيضاً بسبب الانخفاض غير المسبوق في معدلات الاهتمام بها في منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي الأكبر نطاقاً. 

كذلك، في الفترة ما بين العامين 2007 و2009، في أيرلندا والنمسا، توجّب إنقاذ المؤسسات المالية من جانب الحكومات أو الاستحواذ عليها من جانب بنوك أفضل حالاً منها من الناحية المالية. تلك المعايير المتزايدة التي توجّب على الجهات الفاعلة في القطاع الوفاء بها والقوانين الجديدة التي صار يتعين عليها الامتثال إليها قد أدت إلى تحسين استقرار البنوك الناجية وزيادة نسب رأس المال لديها وخفض حصتها من القروض المتعثرة في الأعوام التالية. ومع ذلك، عندما أجرى البنك المركزي الأوروبي فحصاً للصحة في عام 2014، وجد أنَّ 25 من  البنوك الكبرى في منطقة اليورو البالغ عددها 130 بنكاً قد فشلت في اختبار التحمّل. وبلغت قيمة العجز في رأس المال الذي قدّره البنك المركزي الأوروبي 25 مليار يورو (28,067,750 مليار دولار أميركي). 

مرة أخرى، وعلى النقيض من الولايات المتحدة، لم تكن 2018 سنة جيدةً على بنوك القارة العجوز: بحلول نهاية الصيف، وفي الربع الأخير من العام نفسه، تبين أنَّ أسهمها كانت من بين الأسهم الأسوأ أداءً على الإطلاق. كانت الخسائر المُعلن عنها في وسائل الإعلام الرئيسية مذهلة: ففي غضون أربعة أشهر فقط، انخفضت سعر أسهم دانسك بنك Danske Bank الدنماركي بنسبة كادت أن تصل إلى 32%، وكوميرتس بنك الألماني Commerzbank بنسبة تعدّت 31% ودويتشه بنك Deutsche Bank بنسبة قاربت على 30% وبنكيّ يوني كريدت Unicredit الإيطالي وبي إن بي باريبا BNP Paribas بنسبة بلغت نحو 24%. 

إلا أنَّ الأمر لا يتعلق بالبنوك المتعثرة، إذ إنَّها قادرة على النجاة، بل بتلك المؤسسات المالية التي لم تستطع النجاة وحدها؛ فتوجّب إنقاذها من أموال دافعي الضرائب. ولعل حالة المؤسسة المالية الإيطالية بيانكا مونتى ديي باسكي دي سيينا Banca Monte dei Paschi di Siena SpA تُعد حالة رمزية: فمنذ سنتين ماضيتين، في عام 2017، احتاج أعرق بنك عامل في العالم (إذ إنَّه تأسس في عام 1472) إلى ما يقرب من 6.3 مليار دولار أميركي لتجنب الإفلاس. وعليه، منحته الحكومة الإيطالية في روما دعماً حكومياً لتفادي إثارة أزمة مصرفية على مستوى الدولة. جدير بالذكر أنَّ عملية الإنقاذ هذه قد نُفذّت رغم وجود تقرير أعدّه فريق من مفتشي البنك المركزي الأوروبي، واستشهدت به مؤخراً وكالة بلومبرغ Bloomberg، شكك في احتمالية تعسّر البنك حتى في عام 2015. 

جاء تمويل المؤسسة المالية السابقة بغض النظر عن مخاوف الخبراء من احتمالية عدم نجاح محاولة إبقاءه قيد العمل. كذلك، فقد خرقت عملية الإنقاذ تلك القوانين التي وضعها الاتحاد الأوروبي نفسه المتعلقة بالأهلية للإنقاذ. وعليه، فإنَّ إعادة مؤسسة مونتى باسكي للعمل، بالنظر إلى حالته السيئة، تُعد بمثابة خطوة تقوّض من مصداقية البنك المركزي الأوروبي باعتباره جهة تنظيمية مصرفية، وتثير التساؤلات عن المساءلة والشفافية حين يتعلق الأمر بإنفاق الأموال العامة في سبيل إنقاذ المؤسسات الخاصة المنهارة. فهل سنرى المزيد من عمليات إنقاذ البنوك والمؤسسات التي تنتهك القوانين؟ هذا سؤال مهم يجب التفكير فيه في حال كانت هناك أزمة مالية جديدة على وشك الحدوث.

انهيار البنوك الصغيرة يتسبب في حدوث أزمة ائتمان في الصين

يرى عدد متزايد من المحللين أنَّ الأزمة المالية التالية من المرجح أن تبدأ من الصين بسبب نظامها المالي المُثقل بالديون. وهناك حادثة وقعت في الآونة الأخيرة تبرهن على صحة تلك المخاوف: باوشانغ Baoshang هي مؤسسة إقراض صغيرة يقع مقرها في منطقة منغوليا الداخلية ذاتية الحكم انهارت في نهاية شهر مايو/ أيار الماضي، 2019، مع أنَّ الأرقام التي حققتها قبلها ببضعة أسابيع لم تكن تشير البتة إلى أنَّ ذلك سوف يحدث. بل وفقاً لأحدث تقرير قدمته للسُلطات المالية، سجّل البنك أرباحاً بلغت 600 مليون دولار أميركي في عام 2017، وكان لديه 90 مليار دولار أميركي تقريباً على هيئة أصول، بينما كانت نسبة قروضه المتعثرة أقل من 2%. 

فجأة، انهار بنك باوشانغ واستولت عليه الجهات التنظيمية الصينية، في ما يُعد أول إجراء من هذا النوع تتخذه جمهورية الصين الشعبية خلال القرن الحالي، وسارعت بإلقاء اللوم في ذلك على عاتق مالكه؛ متهمةً إياه باختلاس الأموال. من الناحية الأخرى، فإنَّ المراقبين يقولون إنَّ أهمية انهيار بنك باوشانغ تنبع من حقيقة أنَّه جاء نتيجة تخلف البنك عن سداد التزاماته مع البنوك الأخرى. منذ ذلك الحين، تعذّر بشدة على المؤسسات المالية الأصغر حجماً الوصول إلى سوق الإقراض بين البنوك الذي تعتمد عليه بشدة. 

صحيح أنَّ انهيار بنك من منطقة منغوليا الداخلية قد لا يبدو حدثاً بأهمية انهيار بنك ليمان براذرز، إلا أنَّ الحجم له طبيعة خاصة تماماً في الصين: إذ إنَّ هناك عدد من البنوك الصينية الصغيرة والمتوسطة مجتمعةً التي تُعد في الواقع أكبر حجماً من الجهات الفاعلة الكبرى؛ وبالتالي صارت جميعها تواجه مصاعب عند محاولة إقناع المؤسسات المالية الأكبر حجماً بأنَّها مستقرة بما يكفي للحصول على قروض جديدة. 

أجبر هذا الوضع بنك الصين الشعبي على التدخل بضخ 600 مليار يوان (125 مليار دولار أميركي) للحفاظ على مستوى السيولة، مع استحداث ضمانات كاملة لجميع ودائع الأفراد. مع ذلك، فقد أصبح الحصول على الائتمان أصعب وأكثر تكلفةً على البنوك الصغيرة بالفعل؛ لا سيما في ظل تدهور التوقعات الاقتصادية وسط النزاع التجاري الجاري مع الولايات المتحدة. 

في ظل هذه الظروف، ثمة أمر واحد مؤكد: الثقة في النظام المالي العالمي، القائم على العملات النقدية المستمرة في التضخم، سوف تستمر في التضاؤل. وفي حين أنَّ هناك حواجز جديدة يجري رفعها لتحرير التفاعل الاقتصادي، بسبب اعتبارات جيوسياسية في الغالب، فإنَّ الحاجة إلى أداة مستقلة للتدفقات المالية العالمية سوف تستمر في التزايد. أمَّا ما إذا كانت العملات المشفّرة قادرة على الاضطلاع بهذا الدور أم لا، فهو تساؤل يظل مفتوحاً؛ لكنَّ الإجابة عنه ربما تأتي أسرع مما يظن كثيرون. 

إخلاء المسؤولية: الآراء والتحليلات والأخبار الواردة لا تعكس رأي بت شين. لا ينبغي اعتبار أي من المعلومات التي تقرأها على موقع بت شين بمثابة نصيحة استثمارية، ولا تصادق بت شين على أي مشروع قد يتم ذكره أو ربطه في هذه المقالة. يجب اعتبار شراء وتداول العملات المشفرة نشاطًا عالي المخاطر. ويرجى بذل المجهود الواجب قبل اتخاذ أي إجراء يتعلق بالمحتوى المذكور ضمن هذا التقرير. لا تتحمل بت شين أي مسؤولية في حالة خسارة الأموال في تداول العملات المشفرة.