منذ أن أطلقت شركة فيسبوك Facebook الورقة البيضاء لعملتها المرتقبة ليبرا Libra، تدفقت على مواقع التواصل الاجتماعي تكهنات حول نزعة زوكربرغ للسطو على سوق العملة المشفرة، إذ أطلق البعض اسم “قاتلة البتكوين (BTC)” على عملة ليبرا. ولكن بالتمعن في تفاصيل الخطة، يتضح أن ما تقوم به الشركة يمثل تهديداً للعملات الرسمية للحكومات أكثر بكثير منه للعملة المشفرة.

يُرادُ لليبرا أن تصبح عملة رسمية عالمية، لا عملة مشفرة

لا حاجة للدخول في تفاصيل تقنية حول الماهية الحقيقية للبلوكتشين، فمن السهل ملاحظة أن العلاقة بين ليبرا والعملات المشفرة علاقة سطحية للغاية، لأنها مركزية وليست متاحة للجمهور. وهذا الأمر جليٌّ أمام المسؤولين عن العملة، إذ يحاول كُتّاب الورقة البيضاء إخفاء هاتين القضيتين الرئيسيتين.

وفي محاولة منها للادعاء بلامركزية مشروعها الجديد، أحاطت شركة فيسبوك نفسها بمجموعة من الشركات والمنظمات التي ستمثل الأعضاء المؤسسين للمنظومة الحاكمة لعملة ليبرا، وبالتالي ستعمل تلك الكيانات عمل عُقَد التحقيق الأولية عند إطلاق العملة. هؤلاء هم اللاعبون الذين يحق لهم تحديد كيفية سير المشروع ومن يحق له الانضمام أيضاً. تخيل مسئولاً سياسياً يختار جميع أعضاء أحد اللجان المهمة ثم يدّعي أن قرارات هذه اللجنة ستكون مستقلة تماماً، ألا يبدو هذا سذاجة مفرطة؟

أما عن كونها متاحة للجمهور، فلا تحاول فيسبوك إخفاء أن مشروع ليبرا لن يُبنى على هذا الأساس. وبدلاً من ذلك، تتحدث الشركة عن طموحاتها نحو “رحلة بناء نظام متاح للجمهور”. ولكنها تخطط لبدء هذه الرحلة خلال خمس سنوات من الإطلاق الرسمي لنظام العمل الخاص بالعملة، أي نحو عام 2025، دون أي حديث عن موعد نهائي لتحقيق هذه النقلة على أرض الواقع. بالإضافة إلى ذلك، تسرد الورقة البيضاء كثيراً من الأعذار التي تفيد بأن النظام المتاح للجميع لن يعمل بشكل جيد، وهو ما يعطي انطباعاً بأنها تبرر مسبقاً لأعذار لا نهائية للتأخير أو التخلي الصريح عن هذه “الرحلة” في أي مرحلة ما بعد انطلاق المشروع.

تهدف ليبرا إلى الوصول لأولئك الذين لم تُتح لهم فرصة استخدام الخدمات المالية التقليدية والذين لم يسمعوا قط بمفاهيم مثل الشبكات اللامركزية أو الشبكات المتاحة للجمهور. مثل سكان أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط وأميركا الجنوبية ممن لديهم تطبيق فيسبوك ماسنجر للمراسلة Facebook Messenger وواتساب Whatsapp على هواتفهم المتواضعة ولكنهم لا يمتلكون طرق ممكنة لحفظ مدخراتهم رقمياً وإرسالها لعائلاتهم خارج الدولة أو أخذ القروض غير الباهظة. هؤلاء هم المعنيون في الورقة البيضاء وهذه هي البيئة التي تصورها المواد الإعلانية لعملة ليبرا.

بالطبع حاولت العديد من المشاريع استهداف السوق الشاسعة من الأشخاص الذين لا يمتلكون حسابات بنكية، وهناك أيضاً أسباب كثيرة تشجع فيسبوك على تقديم الخدمات المالية. إذ تمثلت عملياتها مؤخراً في التركيز على تحليل الرأي العام، مع مخاوف من انتهاك خصوصية المستخدمين والتمكين الزائد لوسائل الدعاية وقمع حرية الرأي والمزيد. وحين تُفرض تغييرات رئيسية على الطريق التي تدير بها فيسبوك أعمالها، إذا حدث ذلك، فمن الذكاء أن تبحث الشركة عن مصادر إيرادات إضافية.

لا بدَّ وأن زوكربرغ تأمل في وضع الصين، وكيف ازداد عدد مستخدمي شبكة التواصل المحلية وي تشات Wechat ليفوق المليار مستخدم، مما جعلها أحد عمالقة المدفوعات الإلكترونية في الدولة. وإذا استطاعت فيسبوك أن تفعل المثل في أسواق صاعدة أخرى، مع كسب جزء من أرباح البنوك وشركات بطاقات الائتمان في الأسواق المتطورة، بالإضافة إلى احتكارها لسوق التواصل الاجتماعي، فإن من شأن هذه الحركة أن تجعل المدير التنفيذي للشركة قوياً بشكل لا يمكن تصوّره. وبالرغم من ذلك، لا يبدو أن زوكربرغ يريد التوقف عند هذا الحد.

استبدال السيادة بصلاحيات للمراقبة الكاملة

ليبرا ليست مجرد عملة مستقرة تعتمد على عملة رسمية ما بنسبة ثابتة، بل إن لها قيمتها الخاصة. ستُدارُ ليبرا عن طريق هيئة أشبه بالهيئات النقدية وستكون مدعومة بسلة احتياطي الودائع البنكية وسَنَدات حكومية قصيرة الأجل.

تختلف ليبرا أيضاً عن خدمات المدفوعات أمثال وي تشات باي Wechat Pay وباي بال Paypal وفيزا Visa وماستركارد Mastercard، لأنها ليست مجرد وسيلة لتحويل الأموال فقط، بل هي عملة في حد ذاتها. وهدفها الرئيسي والمعلن هو أن تصبح عملة عالمية جديدة وجذابة أكثر من غيرها من العملات الرسمية للحكومات. منذ أزمنة سحيقة، ظل صك العملات دليلاً حصرياً على السيادة. وهذا ما يستخدمه المؤرخون في تحديد الوقت الذي غزت فيه إمبراطورية ما أرضاً جديدة أو أوقات صعود واندثار الممالك، لأن أول ما تفعله تلك الممالك عندئذ هو صك عملات تحمل صورة الحاكم الجديد. وبينما تحاول العملات المشفرة تفكيك هذه السلطة بعيداً عن مراكز الحكم في الدولة، تأتي ليبرا لتنتزع تلك السلطة لنفسها.

أثار الإعلان غضب عدد من السياسيين من جميع أنحاء العالم تجاه خطة فيسبوك. ففي الولايات المتحدة الأميركية، طالبت رئيسة لجنة الخدمات المالية بمجلس النواب الأميركي ماكسين ووترز بتعليق عمليات تطوير ليبرا حتى “تتسنى الفرصة أمام الكونغرس والمشرعين للبت في تلك القضايا الخاصة بالعملة واتخاذ الإجراءات اللازمة لها”. بالإضافة إلى ذلك، تخطط لجنة الشئون المصرفية بمجلس الشيوخ الأميركي لعقد جلسة اجتماع حول هذا الأمر في الشهر المقبل. وحذر الألماني ماركوس فيربير، عضو البرلمان الأوروبي من أن تتحول فيسبوك إلى أحد “بنوك الظل” وطالب المشرعين بالتحلي بأقصى درجات الحذر. وأيضاً صرّح عضو مجلس الدوما الروسي أنتولي أكزاكوف بعدم نية بلاده الاعتراف بشرعية ليبرا. وفي ذات السياق، اتخذ وزير المالية الفرنسي برونو لو ماير الموقف الأقوى إذ قال إن هذا أمرٌ “مفروغ منه” وأن ليبرا ستصبح “عملة سيادية” وهذا “لن يحدث ولا يجب أن يحدث”.

سبق وأن أوقفت الهند خطط فيسبوك لأحد خدمات الإنترنت التي ستربط المستخدمين بخدمات الشركة، ويجب على الشركة إدراك أنه يمكن أن تتخذ عدد كبير من الحكومات نفس السلوك في المستقبل تجاه ليبرا. وبالرغم من ذلك، يبدو أن مارك زوكربرغ تعلم بعض أساليب المناورة السياسية، مثل إنفاق الملايين لحشد الأنصار وتعيين بعض السياسيين أصحاب العلاقات الجيدة مثل نائب رئيس الوزراء البريطاني السابق نيك كليغ. عُرف بالفعل أن فيسبوك تجري نقاشات مع عدد من كبار محافظي البنوك المركزية وهم يبدون داعمين بشكل كبير لعملة ليبرا، مما يتضح من بياناتهم. إذ يرى رئيس نظام الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول “فوائد محتملة” من هذه العملة، بينما يعتقد محافظ بنك إنكلترا المركزي مارك كارني أنه سيكون لليبرا بعض الاستخدامات المفيدة.

إذا سُمح بإطلاق العملة كما هو مقرر، ونجحت بالفعل في أن تكون عملة عالمية، حينئذ سيكون من المحتمل أن تحاول شركة فيسبوك إغراء بعض الحكومات القوية للتعاون معها في مشروع ليبرا على المدى البعيد، وذلك عن طريق إعطاء الأشخاص الساعين للسلطة المطلقة شيئاً لطالما حلموا به. سيمهّد مثل هذا النظام لحالة من المراقبة الشاملة لكافة الأنشطة الاقتصادية للجماهير. سيمكن نظام العملة كلاً من السياسيين ومحافظي البنوك المركزية من الحصول على المجتمع الخالي من النقود الذي يحلمون به، دون تكبد عناء تطوير هذا النظام بأنفسهم، وبالإضافة إلى ذلك، سيمكّنهم من الوصول الحر لكافة المعلومات المتعلقة بمعاملات الجمهور بصورة فورية.

إخلاء المسؤولية: الآراء والتحليلات والأخبار الواردة لا تعكس رأي بت شين. لا ينبغي اعتبار أي من المعلومات التي تقرأها على موقع بت شين بمثابة نصيحة استثمارية، ولا تصادق بت شين على أي مشروع قد يتم ذكره أو ربطه في هذه المقالة. يجب اعتبار شراء وتداول العملات المشفرة نشاطًا عالي المخاطر. ويرجى بذل المجهود الواجب قبل اتخاذ أي إجراء يتعلق بالمحتوى المذكور ضمن هذا التقرير. لا تتحمل بت شين أي مسؤولية في حالة خسارة الأموال في تداول العملات المشفرة.