في الرابع والعشرين من شهر إبريل/نيسان من هذا العام، كتب جوفان ميدفورد، طالب الرياضيات المالية كندي الجنسية والشغوف بكلٍ من الرياضيات وتحليل البيانات، لموقع ميديام (medium.com) مقالًا بعنوان “لمَ تعد البلوكتشين امتداداً واقعياً لمسلسل بلاك ميرور Black Mirror”. في هذا المقال، عبّر الكاتب عن رؤيته التي تتضمن أوجه التشابه بين الموقف الحالي لتكنولوجيا البلوكتشين ومغزى حلقات المسلسل البريطاني بلاك ميرور. وإليكم نص المقال:

أتذكر جيداً ذلك اليوم المصيري الذي جرفني فيه التيار لمشاهدة الحلقة التجريبية المربكة من مسلسل بلاك ميرور Black Mirror الذي تنتجه شركة نيتفلكس Netflix.

كنت خائفاً بالفعل، لأنني لم أتوقع مطلقاً أن يحصل مثل هذا العمل الفني على شعبية كبيرة نسبياً بين المسلسلات التلفزيونية. وما زاد خوفي هو أن المسلسل مشتق من أنماط عصرية وواقعية ومنطقية؛ إذ شعرت كأنني أشاهد تقريراً إخبارياً مرعباً.

فقط تخيل هذه القصة: تم اختراق جميع الأجهزة الإلكترونية في الدولة وأصبح جميعها يعرض بثاً مباشراً واحداً لرئيس الوزراء. والحبكة تضمنت أن القائد المحبوب -تقريباً- عليه الاختيار ما بين القيام بفعل شنيع وبين التضحية بحياة فتاة رهينة عند المخترقين. والتوتر يزداد.

ألا يبدو أن هذا قد يحدث في أي يوم؟

ومع ذلك، وعلى قدر العنف الذي أظهره المشهد، فإن معقولية المشهد الأكبر حولت كل أحاسيس الغثيان والخوف هذه إلى تساؤل عن معنى أعمق.

ما هو الشيء الذي يحاول الكتاب الحديث عنه؟ بغض النظر عن ماهية هذا الشيء بالتحديد، فمن المؤكد أنهم يبذلون جهداً جماً لقوله.

وحلقة بعد حلقة، بدأ النمط العام في الظهور: ذلك النمط الذي يظهر براعة المفهوم الذي يقبع خلف المسلسل- ومفاده أن التكنولوجيا ستعمل في المستقبل على إظهار عيوب المجتمع الحالية.

وبطريقة مماثلة، تطرح البلوكتشين أسئلتها الخاصة حول العالم الذي نعيش فيه. أولاً، فهي تلفت أنظارنا في البداية نحو التكلفة الحقيقية التي ندفعها في مقابل الثقة. ثانياً، نتعرض لمفهوم الخوف من التكنولوجيا كنمط متكرر في مسلسل بلاك ميرور. وبالمثل، يمكننا ملاحظة كيف يؤثر الخوف من البلوكتشين على تبنيها، وما إذا كان هذا الخوف منطقياً أم لا. وأخيراً سوف نعطي ملخصاً عن الفكرة الأقوى في المسلسل، وهي أن التكنولوجيا بمفردها ليست كافية لإصلاح مشاكل العالم. وبالأخص عندما لا تكون البلوكتشين والتكنولوجيا عموماً هي رأس المشكلة، بل الأشخاص الذين يستخدمونها.

الانعكاس الخبيث

طبقاً لقاموس ميريام ويبستر Merriam Webster، فإن تعريف البلوكتشين هو كالتالي: “البلوكتشين هي قاعدة بيانات رقمية تحتوي على معلومات (مثل سجلات للمعاملات المالية)، ويمكن مشاركة هذه المعلومات بشكل لحظي عبر شبكة لا مركزية ضخمة ومتاحة للعامة”.

وبشكل عملي، فإن البلوكتشين هي تكنولوجيا لإدارة الثقة. ينبع هذا الاستنتاج من حقيقة أنها تقدم نظاماً شفافاً ومضاداً للتزوير لحفظ السجلات. حينئذ تحفظ البلوكتشين القيمة عن طريق خوارزمية الإجماع المتضمنة في النظام. وهذا يخبرنا الكثير إذا فكرنا في أن البلوكتشين تحتوي على كل أنواع التغييرات الثورية في كيفية إدارتنا لأعمالنا.

من المتوقع أن تصير البلوكتشين مزعزعة للنظام بدرجة كبيرة، وهذه الحقيقة تكشف شيئاً واحداً عن بناء المجتمع الذي نعيش فيه، وهو أن تكلفة الثقة باهظة.

لكي نجري معاملاتنا باطمئنان، نحتاج إلى نظام يقدم إثباتاً دقيقاً عن ممتلكات الناس ومستحقاتهم وديونهم. فقط تأمل حقيقة أن جزءً أساسياً من وظيفة المحاسب هو مراجعة سجلات شركته مقارنةً بالشركات التي يتعاملون معها. أضف إلى هذا أنه سيكون لدينا حينئذ مراجعون داخليون وخارجيون للتأكد من صحة سجلات الشركة، ولن نتحدث عن المستشار القانوني الذي يحدد بدوره معنى كلمة “سليم”.

لدينا أنظمة للفحص والموازنة، وهذه الأنظمة تراجع نفسها ذاتياً باستمرار ولكنها مكلفة بشكل مرعب.

الوسيط

لكي نوجد الثقة حيث لا توجد، نبحث أحياناً عن كيانات بينية لتسهيل إجراء المعاملات. تسمى هذه الكيانات في بعض الأحيان “الوسطاء”، ودور هؤلاء الوسطاء هو:

  • التأكد من أن المالك له الحق في بيع السلعة
  • حفظ سجل صحيح لتاريخ المعاملات
  • التأكد من أن البائع له الحق في شراء السلعة

وأوضح مثال على هذه الكيانات هو البنك. نستعين بالبنوك لتسهيل كل أشكال التحويلات المالية. بداية من دفع الفواتير وصولاً إلى إرسال النقود إلى العمّة هيلغا في دولة أخرى، كل هذا يتم عبر البنك.

وبشكل عام، فإن هناك أشكالاً عدة للرسوم البنكية تضاف لكل معاملة من هذه المعاملات. من الجدير بالذكر أن رسوم التحويل البنكي تتراوح ما بين 0 و45 دولار داخل الولايات المتحدة.

في عام 2016، كانت قيمة التحويلات البنكية حول العالم تعادل حوالي 574 مليار دولار بمتوسط عمولة 7.14%. وهذا يعني أن الرسوم البنكية على التحويلات فقط تساوي 40 مليار دولار تقريباً.

كل هذه الأموال ما هي إلا تكاليف الثقة؛ لأننا غير قادرين على إتمام هذه المعاملات بأنفسنا. تسلط تكنولوجيا البلوكتشين الضوء على تكلفة الثقة عن طريق تقديمها لنظام أكفأ لإدارة الثقة؛ نظام مباشر وأقل عرضة للأخطاء البشرية، وبتكلفة أقل بكثير من تكلفة الأنظمة التقليدية أيضاً.

هل هناك المزيد؟

بالإضافة إلى ذلك، فنحن نستعين بالبنوك في الادخار الآمن لأموالنا ضمن أشكال عدة للمدخرات الثمينة. وتشجعنا البنوك على هذا عن طريق تخصيص معدل فائدة معين على مدخراتنا، ولكنها في نفس الوقت تُقرضنا أموالاً بمعدلات فائدة أعلى بكثير.

ومن الجدير بالذكر في هذا الصدد أن البنوك لها القدرة على خلق الأموال من العدم.

عندما تجلب 50 دولارا إلى البنك، فقد يُجبرهم القانون على حفظ حوالي 5 دولارات في الخزانة بينما يحق لهم التصرف في الـ45 دولاراً المتبقية. وبنك فيولا Viola خلق 45 دولاراً لم يوجدوا من قبل. وما نعنيه هنا أن هذه الـ45 دولار الآن في مكانين مختلفين في نفس اللحظة. نعرف أنها في حسابك؛ لأنك إذا أردت سحبها، فستحصل عليها. ولكنها في الحقيقة يمكن أن تكون قد استخدمت في أغراض أخرى.

وهذا موقف عارض توازن فيه البنوك حساباتها عن طريق إدارة المخاطر.

لسوء الحظ، ليس لدينا الكثير لقوله عما تفعله البنوك بأموالنا بعد إيداعها. بل والأسوأ من ذلك هو أن لأفعالها تأثيراً ضخماً على صحة الاقتصاد ككل، هذا التأثير الذي يمتد ليشمل حياتنا اليومية.

منذ حوالي 12 عاماً، أصدر بنك ليمان براذرز Lehman Brothers تقريراً عن سجل الأرباح لاقى إعجاب المراجعين في ذلك الوقت. وبعد مرور أقل من عام، تراجعت قيمة هذه الأصول نفسها وشرعت الشركة في إجراءات إعلان إفلاسها، مما ساهم في إشعال الأزمة الاقتصادية عام 2008.

قد يكون هذا مثالاً متطرفاً، ولكنه مثال واضح على التكلفة الهائلة للثقة.

رهاب التكنولوجيا

يلعب مسلسل بلاك ميرور على الاعتقاد الفطري لدى المشاهدين بأن أخطر التهديدات التي يواجهها الإنسان هو الإنسان ذاته. ترجم المسلسل هذا المفهوم بفجاجة، إذ تتحدث كل حلقة عن تكنولوجيا مذهلة وأغلب الحلقات تنتهي بالموت. وبالرغم من أننا نشعر بأن المسلسل ومتطرف وصادم ومزعج، إلا أنه يصعب علينا الجدال في صحة مواضيعه. فالأشياء الجديدة مذهلة وتقدمية وضرورية بالطبع، لكن من الممكن أن تصبح نفس هذه الأشياء الجديدة مدمرة وقادرة على القتل في بعض الأوقات.

وهذا ما يجعل الخوف من المجهول مفيداً في بعض الأحيان. وهذا هو السبب في وجود هذا الخوف من الأساس.

يشكل هذا الخوف جزءً من الصعوبات التي تكبح من سرعة تبني العملات المشفرة في الاستخدامات النقدية. إذ تعد العملات الرسمية والبنوك التي تدعمها خياراً مريحاً بالنسبة لنا. ونحن نعلم أننا نتكبد رسوماً بنكية غير منطقية وأن أرباح هذه البنوك تتزايد في كل حركة، ولكننا في النهاية نحصل على خدمة مرضية بالشكل الكافي الذي يساعدنا على نسيان هذه التكاليف والتقدم لمواجهة 99 مشكلة أخرى نواجهها.

ليست إذاً مصادفة أن تنتشر البتكوين في عام 2009 تقريباً. فقد كان هذا الوقت مثالياً لمواجهة حقيقة أن فقدان الثقة في النظام البنكي تغلب على رفاهية السير مع التيار. ولكن لسوء الحظ، تعد مناقشة أنظمة بنكية بديلة أمراً في غاية الصعوبة، لأننا ليس لدينا الوقت الكافي للتفكير في الاختلاف الذي ستجلبه هذه التغييرات لحياتنا.

ومع ذلك، تأتي ايضاً تكنولوجيات البلوكتشين مع حصة عادلة من المخاوف.

أولاً، اللامركزية يمكن أن تكون مكلفة. إذ يتطلب الأمر حالياً قدرات حاسوبية عالية لتشغيل الخوارزميات المعقدة التي تجعل البلوكتشين آمنةً. مما يعني أن الأمر يتطلب كميات كبيرة من الكهرباء التي لا تزال تنتج في الغالب عن طريق الوقود الحفري. وفقاً لمقال نشرته مجلة فيوتشرزم Futurism في عام 2017، فإن معاملة بقيمة عملة بتكوين (BTC) واحدة تحتاج إلى طاقة كهربية كافية لإنارة بيت متوسط لمدة شهر كامل.

والأكثر من ذلك هو أن تقنيات البلوكتشين الحالية تعد أبطأ من نظيراتها التقليدية المستخدمة حالياً. على سبيل المثال، تستطيع شبكة بلوكتشين الإيثريوم (ETH) إتمام 15 معاملة في الثانية في حين أن شبكة فيزا Visa يمكنها إتمام 45 ألف معاملة في الثانية الواحدة. إلا أن مؤسس الإيثريوم واثق من أن التكنولوجيا ستكون قادرة على إتمام مليون معاملة على الأقل في الثانية الواحدة.

بالطبع يكمن الخوف الأعظم من التساؤل حول قدرة تكنولوجيات البلوكتشين على الصمود وتقديم مزايا الأمان التي يتحدثون عنها. فحتى الآن، تتمثل معظم مشاكل الأمان في الاحتيال على بعض الأشخاص وسرقة عملات البتكوين الخاصة بهم- وهو ليس عيباً في التكنولوجيا.

التكنولوجيا وحدها لا تكفي

البيان الأقوى الذي يصدّره مسلسل بلاك ميرور هو أن الحصول على تكنولوجيا أفضل مع وجود نفس المشاكل المجتمعية سيؤدي إلى نفس النتائج. وبالأخص في حال الحديث عن أي تكنولوجيا، فإن المشكلة الرئيسية ستكون في الغالب بسبب الأشخاص الذين يستخدمونها.

ومثال على هذا هو أن البنوك تشكل قطاعاً كبيراً من قائمة بلوكتشين فيفتي Blockchain 50 التي تعدها مجلة فوربس Forbes (وهي قائمة بالشركات الرائدة في براءات الاختراع الخاصة بتطوير تكنولوجيا السجلات الموزعة). وهذا يعني أن نفس الشركات التي تجني أرباحاً هائلة من تكاليف الثقة تقود تطوير التكنولوجيا التي من المفترض أن تحل محلها. لكن المتوقع حدوثه نجاح هذه الشركات في دمج تقنيات البلوكتشين في عملياتها لزيادة شفافيتها وكفاءتها ونأمل في أن يعود هذا بفائدة على المجتمع الأكبر.

هناك جانب آخر يدعو للأمل، وهو أن البلوكتشين ستشكل أداة لمحاربة قوى الفساد. لأن الفساد بالفعل هو الشيء الوحيد الذي يكلفنا أكثر من تكلفة الثقة. بحسب صندوق النقد الدولي IMF فإن ما ينفق كرشاوى كل عام يعادل ما بين 1.5 لـ2 تريليون دولار (أي حوالي 2% من إجمالي الناتج المحلي لجميع دول العالم).

فنزويلا هي مثال صارخ على الارتباط بين فساد السياسات الحكومية وبين الآثار المدمرة للانهيار الاقتصادي على الحياة اليومية. أدت السياسات التي تبناها نظام تشافيز حتى عام 2013 ثم واصلتها حكومة مادورو إلى زيادة معدلات التضخم إلى 80,000% في العام الواحد وهو معدل ما زال خاضعاً للزيادة. هذه الآثار قاسية للدرجة التي تجعل الناس يلتمسون الطعام من صناديق القمامة.

قد تعطي العملات المشفرة حلاً لمثل هذه المواقف عن طريق تقديم بديل سريع للعملة المحلية المنهارة، هذا إذا استخدمت استخداماً صحيحاً.

لكن المعضلة هنا هو أنه يمكن لحكومة فاسدة حقاً أن تكون مبتكرة بشكل مذهل. والجزء الجيد هو أن السجلات اللامركزية غير القابلة للتغيير ستجعل الفساد أصعب. ومع ذلك، فقد رأينا الحكومة الصينية العنيدة ما زالت ناجحة في خنق التأثير غير المتوقع لمواقع التواصل الاجتماعي.

وخلاصة الأمر أنه بينما يتضح أن البلوكتشين قد تقلب العالم، فإن احتمالاتها تجعلنا نطرح بعض الأسئلة الجادة حول التكلفة الهائلة للثقة، والمفاضلة بين الراحة وبين التكنولوجيا الجديدة، وما إذا كان السعي نحو تكنولوجيا أكثر تطوراً سيؤدي بنا إلى إصلاح مشاكل هيكلية في المجتمع الذي نعيش فيه أم لا.

إخلاء المسؤولية: الآراء والتحليلات والأخبار الواردة لا تعكس رأي بت شين. لا ينبغي اعتبار أي من المعلومات التي تقرأها على موقع بت شين بمثابة نصيحة استثمارية، ولا تصادق بت شين على أي مشروع قد يتم ذكره أو ربطه في هذه المقالة. يجب اعتبار شراء وتداول العملات المشفرة نشاطًا عالي المخاطر. ويرجى بذل المجهود الواجب قبل اتخاذ أي إجراء يتعلق بالمحتوى المذكور ضمن هذا التقرير. لا تتحمل بت شين أي مسؤولية في حالة خسارة الأموال في تداول العملات المشفرة.