منذ أن أمسك الإمبراطور فسبازيان بقطعة نقود معدنية حصل عليها من فرض ضرائب على البول وعلّق بأنَّ رائحتها تدل على أنَّها نظيفة كأي قطعة نقود معدنية أخرى، صارت مسألة فصل الأموال عن مصدرها أمر يشغل تفكير الجهات التنظيمية.
مع التدفق المتسارع للأموال الرقمية في جميع أنحاء العالم، وازدياد خطر الهجمات الإرهابية والعصابات الإجرامية بالغة النفوذ، أصبحت هناك ضرورة ملّحة إضافية لإجراء هذا الحوار. نتيجة لذلك، ظهرت موجة من القوانين والإرشادات وُضعت من جانب الحكومات الوطنية والمنظمات التي تتجاوز حدود الولاية الوطنية.
وبطبيعة الحال، كانت العملات المشفّرة ستتأثر بتلك القوانين والإرشادات عاجلاً أم آجلاً؛
لا سيما وأنَّ العديد من السُلطات تخشى من أنَّ تجاوز الجهات الخارجية سوف يزيد من صعوبة إيقاف تدفقات الأموال غير المشروعة.
دليل الإثبات الأول: من المتوقع للقانون الخامس لمكافحة غسل الأموال AMLD5، المعمول به في جميع دول أوروبا، أن يؤثر في شركات العملات المشفّرة بجميع أنحاء العالم في نهاية المطاف. وهناك دلالات أخرى ظهرت مؤخراً تُشير إلى أنَّ القضية بدأت تحظى بقدر متزايد من الاهتمام في دول أخرى. لكن كما هو معتاد مع أي قانون وشيك لتنظيم الامتثال، تُشكّل
المعاناة من ارتفاع التكاليف وانخفاض الخصوصية على المدى القصير مصدراً للقلق، إلى جانب أنَّ هناك دلالات تشير إلى أنَّ الجهات التنظيمية لا تستوعب تماماً كيفية عمل التقنية حتى الآن.
أمَّا على المدى البعيد، فمن المتوقع أن تتطور المتطلبات في نهاية المطاف، حتى أكثرها صعوبة؛ وهو ما من المرجح أن يعمل على تحفيز التنمية في القطاع بسبل غير متوقعة.
“والآن تبدأ حراستي”*
(* عُذراً على الاقتباس من مسلسل Game of Thrones، لم أستطع المقاومة)
في ما يلي بعض المعلومات الأساسية أولاً.
نشر البرلمان الأوروبي ومجلس الاتحاد الأوروبي European Parliament and Council تحديثاً لتوجيهات الاتحاد الأوروبي الخاصة بمكافحة غسل الأموال AML تحت مسمى “القانون الخامس لمكافحة غسل الأموال” في يونيو/ حزيران 2018، وحدد الموعد النهائي لتنفيذه بأنَّه يناير/ كانون الثاني عام 2020، أي بعد أقل من العام.
بموجب القوانين الجديدة، سوف يتعين على جميع منصات تداول العملات المشفّرة وشركات خدمات إدارة المحافظ التي تمارس عملها في أوروبا تفعيل إجراءات صارمة لمعرفة العملاء
(KYC) عند بداية التعامل، وتسجيل اسمها لدى السُلطات المحلية. وسوف تُصبح أيضاً مُطالبة برصد المعاملات المالية التي تُجرى عليها والإبلاغ عن أي نشاط مشبوه للهيئات المعنية.
إلى جانب أنَّه سيصبح بمقدور السُلطات الوطنية، بما في ذلك مُحصلي الضرائب، الحصول على بيانات ومعلومات مُستخدمي العملات المشفّرة من منصات التداول المعنية.
لا تقتصر المخاوف بشأن عمليات تحويل الأموال غير المشروعة على أوروبا: ففي الأسبوع الماضي، الأسبوع الثالث من أبريل/ نيسان 2019، قوبل الطلب الذي تقدمت به منصة تداول العملات المشفّرة الأمريكية بت تريكس Bittrex للحصول على ترخيص أنشطة العملات المشفرة BitLicense بالرفض بسبب قصور إجراءات بدء التعامل بها من ناحية سياسة معرفة العملاء وقانون مكافحة غسل الأموال (وهو تقييم ترفضه المنصة).
على نطاق أوسع، كرر قادة دول مجموعة العشرين G20، في ديسمبر/ كانون الأول من العام الماضي، 2018، تعهدهم بتطوير قوانين شاملة لمكافحة غسل الأموال مخصصة للأصول المشفّرة. ومن المقرر أن تنشر مجموعة العمل المالي FATF، وهي منظمة حكومية دولية تأسست في عام 1989 للتصدي لغسل الأموال، مجموعةً من الإرشادات وتوقعات التطبيق موجّهة لمنصات تداول العملات المشفرة في جميع دول العالم في شهر يونيو/ حزيران من العام الجاري، 2019.
“ضربة الخوف أمضى من السيف”
بعد صدور مسودة مقترحات مجموعة العمل المالي في شهر فبراير/ شباط الماضي، ردّت شركة تحليلات العملات المشفّرة تشين أناليسيس Chainalysis على المسودة بأن أوضحت أنَّه من غير الممكن دائماً معرفة بيانات المستفيد، وأنَّ منصة التداول ذاتها لا تعرف في معظم الحالات ما إذا كانت وجهة التحويل هي محفظة شخصية أم محفظة على منصة تداول.
يبدو أن مفوضية الاتحاد الأوروبي EU Commission تُدرك ذلك جيداً. وعليه، فُوضّت بتقديم مجموعة إضافية من التعديلات المقترحة تختص بالإبلاغ الذاتي لمالكي العملات المشفّرة الافتراضية وبإنشاء قواعد بيانات مركزية تتيح للدول الأعضاء الاحتفاظ بهويات المُستخدمين وعناوين محافظهم، وذلك بحلول مطلع عام 2020. لكم أن تتخيلوا المعارضة التي سيحظى بها هذا!
من الناحية الأخرى، أوضحت بعض المعارضات الأكثر صراحةً على الإشراف المزمع من الجهات التنظيمية أن ذلك يتعارض تماماً مع الغرض من العملات المشفّرة؛ فهي صُممت للالتفاف على سيطرة السُلطات المركزية وتفادي خطر الخضوع للرقابة من جانبها.
في حين أعرب آخرون عن قلقهم من أنَّ تلك القوانين سوف تؤدي إلى تحويل المعاملات إلى المنصات القائمة على تداول عملة مشفّرة مقابل عملة مشفّرة أو منصات التداول اللامركزية (أو كلتيهما)؛ خصوصاً وأنَّها تتمتع بشفافية أقل وتقع خارج نطاق القانون الخامس لمكافحة غسل الأموال.
هناك أيضاً مخاطر أعمال تتمثل في نفقات التشغيل، التي هي أحد مصادر القلق لأي مشروع، والعبء المتزايد لمتطلبات الإبلاغ الذي من شأنه أن يبطئ وتيرة نمو البنية التحتية للسوق وإضفاء الطابع الاحترافي عليها.
“اجعل من هذا قوّتك”
صحيح أنَّها كلها مخاوف مبرّرة، إلا أنَّ تكثيف الاهتمام بمكافحة غسل الأموال سوف يأتي
في صالح القطاع على الأرجح، بدلاً من أن يضرّ به.
بادئ ذي بدء، القانون الخامس لمكافحة غسل الأموال هو أول قانون يحفظ ما يُعد تعريفاً “رسمياً” للعملات المشفّرة، كالآتي: “هي تمثيل رقمي يُعبّر عن قيمة غير مُصدرة أو مضمونة من جانب بنك مركزي أو هيئة عامة، ولا ترتبط بالضرورة بعملة مُصدرة قانونياً، ولا تتمتع بالوضع القانوني للعملات أو الأموال المُتعارف عليها، ولكنَّ التعامل بها مقبول من الأشخاص الطبيعيين والاعتباريين باعتبارها وسيلة للمقايضة قابلة للتحويل والتخزين والتداول إلكترونياً”.
إنَّ وصف العملات المشفّرة هنا بأنَّها “وسيلة للمقايضة” من شأنه أن يمنح رواد الأعمال والمحامين الدعم اللازم لبناء المزيد من الابتكارات، ويوفر للجهات التنظيمية قاعدة أساسية تتيح لها تفصيل المزيد من التعريفات لذلك النوع من العملات في نهاية المطاف.
هناك فائدة إضافية أخرى: أنَّها تمنح البنوك ثقة أكبر عند تعاملها مع منصات تداول العملات المشفّرة؛ إذ إنَّ أحد الأسباب الرئيسية للصعوبات البالغة التي تواجه شركات العملات المشفَّرة في إنشاء حسابات مصرفية في البنوك هو خوف المؤسسات المالية من تعرّضها لاتهامات بغسل الأموال. ولكن في حال القضاء على تلك المخاوف، سوف تصبح هناك سهولة أكبر في التشغيل بفضل إمكانية الوصول بسهولة إلى شبكة الخدمات المصرفية، مما من شأنه أن يُشجّع المزيد من النمو والتطوير في البنية التحتية؛ وهذا بدوره قد يؤدي إلى تحسين صورة القطاع وسيولته والحد من تقلّب الاسعار في السوق.
يمكن لهذا أن يُمهّد السبيل أيضاً إلى نقل خدمات إدارة الأصول للعملات المشفّرة ذاتها للمؤسسات المالية التقليدية في نهاية المطاف، وهو ما من شأنه أن يحسّن الطلب على العملات المشفّرة أكثر؛ سواءً بغرض إجراء المعاملات المالية أو الاستثمار.
“درّع نفسك بهذه الحقيقة”
حدوث نمو في سيولة العملات المشفّرة لن يرفع سعرها فحسب، بل سيعزز أيضاً من جدوى استخدام تقنيتها الأساسية لأغراض التتبع، ومن الاهتمام الذي سوف يحظى به ذلك.
فكما أوضحت شركة تشين أناليسيس في تعليقها حول مسودة مقترحات مجموعة العمل المالي، استخدام تقنية البلوكتشين بفعالية سوف يجعل الاستعانة بالعملات المشفّرة في غسل الأموال أصعب بكثير من الاستعانة بالأموال النقدية الرقمية، وسيمكّن المشاركين في السوق من التعاون مع جهات تطبيق القانون والامتثال لاتجاهات تشريعات الخصوصية في آن واحد.
وبما أنَّ تشارك عنوان محفظة عملات مشفّرة مع مشاركين في السوق ينتمون إلى دول أخرى أمر مختلف تماماً عن تشارك البيانات التعريفية وجهاً لوجه، فإنَّه لا يتسبب بانتهاك قوانين الخصوصية الصارمة المعمول بها في دول أوروبا. وعليه، سوف تتمكن جهات تطبيق القانون من رصد النشاط المشبوه والتحرّي عنه بسهولة أكبر، وفي الوقت نفسه حماية خصوصية المستخدم إلى حين الحكم بالحاجة إلى جمع قدر أكبر من المعلومات.
ليس هذا كل شيء، بل إنَّ الاحتفاظ بسجلات المعاملات على سلاسل بلوكتشين عامة يُعطي مصداقية أكبر من حيث سلامة البيانات ويحفظ الأدلة من التلاعب أو الخطأ البشري. كذلك، من خلال الاستعانة بالأصول القائمة على تقنية البلوكتشين، يمكن للنيابة العامة الوصول إلى آثار البيانات الموجودة على مستوى أعمق بكثير مما يمكنها الوصول إليه عند الاستعانة بالعملات النقدية. وبمرور أفق زمني كافٍ، والاستعانة بتحليلات معقدة، يمكن وضع تصوّر أكثر شمولاً لتلك الأنماط. وعليه، سوف يتمكن مسؤولو تطبيق القانون من إعداد استراتيجيات استباقية تُخفف من عبء تكاليف المراقبة أكثر.
بهذا، قد ندخل عالماً تنظر فيه الجهات التنظيمية إلى العملات المشفّرة على أنَّها خيار “أنظف”؛ مما قد يُشجّعها على التوصية بتبنيها في عمليات تحويل الأموال عبر الحدود، بدلاً من أن تُركّز على وضع عوائق تحدّ من استخدامها. هذا بدوره قد يؤدي إلى توفير المزيد من الدعم الرسمي للابتكار في مجال الأموال، بل ومن البنوك المركزية حتى، مما من شأنه أيضاً أن يُسّرع من وتيرة تحوّل القطاع المصرفي كما نعرفه اليوم.
بهذا، قد يتضح في النهاية أنَّ ما يراه كثيرون على أنَّه أكبر خطر يُهدد العملات المشفّرة هو في واقع الأمر أكبر فرصة في صالحها.
إخلاء المسؤولية: الآراء والتحليلات والأخبار الواردة لا تعكس رأي بت شين. لا ينبغي اعتبار أي من المعلومات التي تقرأها على موقع بت شين بمثابة نصيحة استثمارية، ولا تصادق بت شين على أي مشروع قد يتم ذكره أو ربطه في هذه المقالة. يجب اعتبار شراء وتداول العملات المشفرة نشاطًا عالي المخاطر. ويرجى بذل المجهود الواجب قبل اتخاذ أي إجراء يتعلق بالمحتوى المذكور ضمن هذا التقرير. لا تتحمل بت شين أي مسؤولية في حالة خسارة الأموال في تداول العملات المشفرة.