فوق التلال المطلّة على العاصمة الجورجية تبليسي، يقبع مبنى لا يحمل وصفاً، يضم صفوفاً متراصةً من خوادم الحاسوب الهادرة. هذا المبنى هو مركز للبيانات تابع لشركة بت فيوري غروب للتكنولوجيا BitFury Group بُني لـ”تعدين” عملة بتكوين المشفّرة (BTC) (أي توليدها تشفيرياً)، لكنَّه كذلك يستخدم حالياً التقنية الأساسية وراء عملة بتكوين، وتُدعى “بلوكتشين” Blockchain، في مساعدة حكومة جورجيا في تأمين سجلاتها؛ في تجربة يراقبها الخبراء عن كثب لإثبات ما إذا كانت تقنية البلوكتشين قادرة فعلاً على تغيير البنية التحتية للحكومة في أي مكان بالعالم.

 

سعت تقنية البلوكتشين في الأصل إلى اكتساب موطئ قدم في مجال الخدمات المالية، واستقطبت العملات المشفّرة فعلاً اهتمام المستثمرين في بداياتها. بغض النظر، بدأ الاهتمام باستخدام هذه التقنية يشهد نمواً متزايداً في القطاع العام؛ إلى حد أنَّ زعم خبير البلوكتشين بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، براين فورد، أنَّ الحكومات سوف تصبح عاملاً مؤثراً في تبني التقنية. إنَّها مفارقة مثيرة للسخرية بلا شك، لا سيما وأنَّ التقنية نشأت في البداية كنموذج متحرر مناهض للسُلطات المركزية. لكنَّ مؤيدي هذا الاستخدام يرون أنَّ تقنية البلوكتشين من الممكن أن تُستخدم في أغراض تسجيل الأراضي، وفي أنظمة إدارة الهوية وسجلات الرعاية الصحية، بل وحتى في الانتخابات.

 

البلوكتشين، وغيرها من السجلات الموزعة المماثلة، عبارة عن قواعد بيانات لا تتبع جهة واحدة فقط، سواءً أكانت تلك الجهة بنكاً مثلاً أو هيئة حكومية، بل تُدار جماعياً من جانب عدد من مستخدميها. فضلاً عن أنَّ جميع تغييرات البلوكتشين تخضع للتشفير، وتصبح غير قابلة للتعديل أو الحذف دون أن يُخلّف ذلك سجلاً للبيانات بحالتها السابقة. نظرياً، يمكن تشكيل أي نوع من المعلومات والبيانات، من سجلات الميلاد إلى المعاملات التجارية، في صورة سلسلة بلوكتشين؛ لتتحول بذلك إلى سجلات آمنة ودائمة لا يمكن التلاعب فيها (من جانب المسؤولين الحكوميين الفاسدين، على سبيل المثال).

 

يزعم المعجبون بتقنية السجلات الموزّعة أنَّ التقنية، في حال نُفذت بشكل صحيح، يمكن أن تؤدي إلى تحسينات في الشفافية والكفاءة والثقة. أمَّا الرافضون، فيردون على تلك المزاعم بأنَّ تبني التقنية على نطاق أوسع ربما يكشف عن أوجه قصور في الأمن. نحن مازلنا في الأيام الأولى لتقنية البلوكتشين بكل تأكيد (البعض يشبهها بشبكة الإنترنت في أيامها الأولى، في أوائل التسعينيات من القرن الماضي)، وصعوبات مرحلة التأسيس قادمة لا محالة. لكنَّ تقنية البلوكتشين سوف تبقى دائماً مجرد جزء من الحل: فلا يمكن لأي تقنية أن تقوّم سلوك القادة الفاسدين أو أن تمنعهم من تغذيتها ببيانات زائفة مثلاً.

 

سوف يستغرق وضع المعايير الصارمة وقتاً طويلاً، وسوف يتطلب توحيد قواعد البيانات عبر جميع النظم البيروقراطية، مع اتساع انتشارها وتعقيدها، استثمارات ضخمة. لكنَّ يبدو أنَّ كل ذلك لا يثير قلق الحكومات ولو قليلاً: فبحسب استطلاع لرأي القادة الحكوميين أجرته شركة آي بي إم IBM في الآونة الأخيرة (نفذته وحدة ذي إيكونوميست لاستقصاء المعلومات Economist Intelligence Unit، إحدى الشركات الشقيقة لمجلة ذي إيكونوميست البريطانية The Economist)، تسعة من أصل عشر منظمات حكومية قالت إنَّها تعتزم الاستثمار في تقنية البلوكتشين كي تساعدها في إدارة معاملاتها المالية وأصولها وعقودها والتزامها التنظيمي بحلول العام القادم، 2020.

 

من جانبه، قال رئيس شركة بت فيوري، فاليري فافيلوف، إنَّ تقنية البلوكتشين ليست فرصة تجارية بالنسبة لشركته وحسب، بل هي أيضاً وسيلة لتغيير كيفية تقديم الحكومة لخدماتها للمواطنين. إذ إنَّ فافيلوف وُلد في لاتفيا، وشاهد والديه “يخسران كل ما يملكان” عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، وبدأ حياته المهنية بكتابة أكواد البرمجيات لصالح الحكومة اللاتفية الجديدة؛ كل ذلك جعله يؤمن بأنَّ تقنية البلوكتشين من الممكن أن تصبح هي “أساس بناء نظام قائم على الثقة والشفافية والقابلية للتدقيق”.

 

وفي بقية دول العالم، تُجرّب السويد حالياً نظاماً لتسجيل الأراضي قائم على تقنية البلوكتشين، بينما أعلنت دبي اعتزامها تشغيل حكومتها بأسرها بتقنية السجلات الموزعة بحلول عام 2020. ولعل أنشط المتبنين الأوائل للتقنية على الإطلاق هم الجمهوريات السوفيتية السابقة: فجمهورية إستونيا، التي تُعرف بأنَّها إحدى رواد الحكومة الإلكترونية، لطالما استعانت بتقنيات شبيهة بتقنية البلوكتشين لتأمين سجلات القطاع الصحي وتدعيم نظام قاعدة البيانات الحكومية المشتركة الخاص بها، إكس رود X-Road. ولا شك أنَّ كونها دولة حديثة له مميزاته؛ فكما قال كاسبر كورجوس، رئيس برنامج الإقامة الإلكترونية بجمهورية إستونيا: “حين لا تكون هناك أنظمة قديمة مُطبّقة، يصبح البدء من الصفر ممكناً، ويصبح بناء مجتمع رقمي أسهل كثيراً”.

 

وفي جورجيا، نقلت الوكالة الوطنية للسجل العام بالبلاد مؤخراً سجلات الأراضي لديها إلى سلسلة البلوكتشين بمساعدة شركة بت فيوري؛ وتمت بالفعل معالجة ما يقرب من 160 ألف وثيقة تسجيل. كانت وزير العدل بالبلاد، تيا تسولوكياني، قد صرّحت أنَّها ترى أنَّه حين يتعلق الأمر بحقوق الملكية، فإنَّ المواطنين الجورجيين سوف “ينامون قريري الأعين” بفضل تقنية البلوكتشين. من الناحية الأخرى، يرى المسؤولون في البلاد أنَّ العائق الرئيسي أمام إدخال تقنية البلوكتشين لم يكن الجانب الفني قط، بل الجانب التثقيفي: حتى الوزير تسولوكياني نفسها لم تكن تعلم ما هي البلوكتشين عندما قدمت وكالات وزارتها مقترح استخدام التقنية للمرة الأولى. قالت الوزير: “نحن نريد أن نتحرك ببطء في ما يتعلق بشرح التقنية للمجتمع، وفي الوقت نفسه نريد أنَّ نتحرك بسرعة في سبيل تنفيذها”.

 

ووقعّت شركة بت فيوري أيضاً مذكرة تفاهم مع حكومة أوكرانيا؛ التي تسعى إلى أن تصبح “إحدى الأمم الرائدة بتقنية البلوكتشين في العالم”. يرجع ذلك إلى أنَّ هيئة الإدارة الإلكترونية في البلاد تنظر إلى هذه التقنية على أنَّها وسيلة تمكّنها من معالجة ما وصفه نائب رئيسها، ألكسي فيسكوب، بأنَّه “عدم ثقة في الحكومة متأصل منذ قديم الأزل”. من الجدير بالذكر أنَّ الهيئة لديها مخططات لاستحداث أنظمة قائمة على تقنية البلوكتشين لجميع أنواع التسجيلات، بما فيها تسجيلات الأراضي والأعمال. لكنَّ، وكما هو الحال بالنسبة لأغلب الإصلاحات في أوكرانيا، قوبلت جهود الحكومة الرامية إلى إطلاق تلك المشروعات بمعارضة من جانب البيروقراطية المترسخة في البلاد. مع ذلك، وكما شرح نائب رئيس الحكومة فيسكوب، فقد جاءت حداثة التقنية وتعقيدها بمثابة غطاءً وقى الحكومة شر تلك المعارضة؛ إذ إنَّ: “أغلب المسؤولين الحكوميين لا يفهمون ما نفعله، وبالتالي لا يجدون فيه تهديداً”، على حد قول فيسكوب.

 

إخلاء المسؤولية: الآراء والتحليلات والأخبار الواردة لا تعكس رأي بت شين. لا ينبغي اعتبار أي من المعلومات التي تقرأها على موقع بت شين بمثابة نصيحة استثمارية، ولا تصادق بت شين على أي مشروع قد يتم ذكره أو ربطه في هذه المقالة. يجب اعتبار شراء وتداول العملات المشفرة نشاطًا عالي المخاطر. ويرجى بذل المجهود الواجب قبل اتخاذ أي إجراء يتعلق بالمحتوى المذكور ضمن هذا التقرير. لا تتحمل بت شين أي مسؤولية في حالة خسارة الأموال في تداول العملات المشفرة.