حتى بعد ظهور فقاعة العملات المشفرة وانحسارها في الآونة الأخيرة، تظل تقنية البلوكتشين، وهي التقنية الأساسية الكامنة وراء العملات المشفرة، تحظى باهتمام متزايد من جانب قطاع الأعمال. كل يوم، يقتنع “رائد أعمال تقني” بفكرة التقنية وبكونها مناسبة تماماً لمؤسسته. لكن بعد مرور أسابيع قليلة، وبعد ساعات وساعات من البحث والاستشارات، تجد مؤسسات الأعمال، سواءً أكانت شركات ناشئة أم شركات صغيرة ومتوسطة أم شركات كبرى، أنفسها وقد أصابتها خيبة الأمل من تقنية البلوكتشين، بعد أن أدركت أن قواعد البيانات المنشأة بلغة الاستعلامات البنيوية (SQL) الخاصة بها لم تكن بحاجة إلى التحديث من الأساس. يرجع هذا بلا شك إلى انتشار الجهل بتقنية البلوكتشين بين رواد الأعمال في جميع أنحاء العالم، لكنه يرجع أيضاً إلى حقيقة أن تقنية البلوكتشين ليست مصممة لقطاع الأعمال أصلاً، بل هي مصممة لإلغائه.

نبذة سريعة عن تاريخ العملات المشفرة

العملات المشفرة والبلوكتشين ابتكاران مرتبطان ببعضهما؛ كلاهما ابتُكر خصيصاً من أجل الآخر: لولا العملات المشفرة، لما وُجدت البلوكتشين. ولولا البلوكتشين، لما وُجدت العملات المشفرة. هذا بالضبط هو سبب أنهما قُدما إلى العالم سوياً في الورقة البحثية نفسها المعروفة باسم “الورقة البيضاء للبتكوين”. ولكي نستوعب سبب عدم التوافق بين طبيعة مؤسسات الأعمال وطبيعة تقنية البلوكتشين، يتعين علينا أن نفهم تاريخ ابتكار عملة البتكوين كاملاً. فمن بين الاعتقادات الخاطئة السائدة حول البتكوين هو الاعتقاد بأنها أول محاولة لاستحداث الأموال الرقمية. صحيح أن البتكوين جاءت بعد محاولات عديدة باءت بالفشل، لكن سر نجاحها دوناً عمّا سبقها هو أنها تجنبت الوقوع في الأخطاء السابقة.

لقد شهدت فترة التسعينيات من القرن العشرين معظم المحاولات الأولى لاستحداث شكل من أشكال الأموال الرقمية، من بينها عدة محاولات لم تُنفّذ بالأكواد ببساطة، وبناءً عليه لم تخضع لأي تجربة عملية قط. منها على سبيل المثال عملة البت غولد BitGold والبي ماني B-Money. ولكن أقدم محاولة فعلية معروفة لاستحداث العملات الرقمية جاءت في عام 1989، على يد خبير التشفير الأميركي ديفيد تشاوم، الذي وضع تصوراً لعملة مشفرة مركزية عُرفت باسم البلايندد كاش Blinded Cash، يستطيع الأفراد تحويلها إلى بعضهم بخصوصية عبر الإنترنت مع الحفاظ على خصوصية معاملاتهم بالاستعانة بالتشفير. اللافت للنظر أنه، حتى وإن كانت شركة ديجي كاش DigiCash المصدرة لعملة البلايندد كاش قد أعلنت إفلاسها في عام 1998، ما تزال بعض أكواد التشفير المستخدمة في منتجها بلايندد كاش مستخدمة في العديد من العملات المشفرة الحالية التي جاءت بعد عملة البتكوين. لكن مشكلة عملة بلايندد كاش كانت أن بنيتها المركزية لم تكن جديرة بالثقة بشكل كافٍ يضمن لها أن تظل موجودة حتى بعد إفلاس الشركة المصدرة لها.

ومن بين أمثلة العملات المشفرة المركزية التي باءت بالفشل أيضاً عملة إي غولد e-gold. على عكس عملة بلايندد كاش، لم يكن نظام أمان عملة إي غولد يعتمد على أي تشفير، وكان وجود العملة مقتصراً تماماً على خادم ويب تشغّله شركة غولد آند سيلفر ريزيرف Gold & Silver Reserve Inc، وهي الشركة المصدرة للعملة. كذلك، فإن مؤسسة إي غولد المحدودة e-gold Ltd كانت تسمح لمستخدميها بإنشاء حساب ويب وربطه برصيد حساب مقوّم بغِرامات المعادن الثمينة كالذهب، بل وأيضاً إجراء عمليات تحويل فورية للقيمة لحسابات إي غولد الأخرى الموجودة على الخادم. نتيجةً لذلك، ارتفع عدد حسابات إي غولد المسجلة في الفترة ما بين العامين 1998 و2009 إلى 5 ملايين حساب، ووصلت قيمة عمليات تحويل الذهب المعالجة سنوياً في أوج نشاطها إلى 2 مليار دولار أميركي.

المفارقة أن نجاح عملة إي غولد بالإضافة إلى بنية نقاط الأعطال المفردة غير الآمنة بها جعلاها عرضة للبرمجيات المالية الخبيثة وهجمات الحرمان من الخدمات ومحاولات الاختراق الأمني وعمليات التصيد الإلكتروني الاحتيالية من جانب مجرمي الإنترنت الذين ظلت جرائمهم تزداد تنظيماً بمرور الوقت؛ حتى إن أول هجوم إلكتروني تعرضت له مؤسسة مالية على الإطلاق قد حدث ضد الأفراد الواردة أسمائهم في قائمة عناوين العملاء الخاصة بمؤسسة إي غولد في عام 2001. ليس هذا فحسب، بل إن هجمات التصيد الإلكتروني على الحسابات المصرفية المشهورة اليوم صُممت في الأصل لكي تُستخدم ضد مؤسسة إي غولد بالذات، ثم استُخدمت بعد ذلك لمهاجمة المؤسسات المالية الأخرى. نتيجةً لهذه الزيادة في معدلات الجرائم الإلكترونية المرتبطة بمؤسسة إي غولد، بدأ مالكو الحسابات الذين وقعوا ضحايا لعمليات الاحتيال في التقدم بشكاوى إلى الجهات الحكومية المعنية بتنفيذ القانون. وفي عام 2007، وجهت الحكومة الفيدرالية للولايات المتحدة الأميركية لمديري مؤسسة إي غولد تهمة إدارة خدمة تحويل أموال داخل الولايات المتحدة دون ترخيص. وعليه، أُوقفت خدمة إي غولد عن العمل بأمر من حكومة الولايات المتحدة. من هنا، يمكننا أن نستنتج أن نموذج عملة إي غولد القائم على الثقة وبنية نقاط الأعطال المفردة الخاصة بها لم يكونا كافيين لكي تنجو العملة من براثن الجهات الفاعلة والإجراءات التنظيمية المغرضة.

اللامركزية والوثوقية

بعد انهيار عملة إي غولد بفترة وجيزة، وتزامناً مع الأزمة المالية التي حدثت في عام 2008، نشر فرد أو مجموعة من الأفراد، اتخذوا لأنفسهم الاسم المستعار ساتوشي ناكاموتو، على شبكة الإنترنت ورقة بيضاء تشرح نظاماً أفضل للأموال المشفرة يستفيد من الوثوقية التي توفرها اللامركزية تحت عنوان “البتكوين: نظام الدفع الإلكتروني القائم على نظام النظير إلى النظير”. في هذه الورقة البيضاء، يصف ساتوشي بنية هي عبارة عن مزيج من التشفير والاقتصاد والأنظمة الموزعة تهدف إلى تحقيق نظام يتمتع بالوثوقية بطبيعته؛ نظام ليس مضطراً للاعتماد على فرد واحد أو مجموعة من الأفراد لكي يواصل تأدية مهامه المنشودة. لذلك، لا علاقة لبقائه واستمراريته ببقاء واستمرارية بشر أو مؤسسة معينة.

وبفضل توزيع الصلاحيات وتوزيع إتاحة التشغيل والمسؤولية ونقاط الأعطال هذا، أصبح البتكوين أول نظام إلكتروني غير قائم على الثقة فعلياً في العالم كله؛ نظامٌ لا يضطر فيه المستخدم إلى وضع ثقته في أي جهة تدير له أمواله (كالبنوك مثلاً) أو القيمة الخاصة به (كالبنك المركزي، على سبيل المثال). هذه الطبيعة اللامركزية التي يتمتع بها البتكوين كانت تستوجب ألا يكون مدعوماً من شركات أو أفراد، وأن يكون أشبه بالظواهر الطبيعية في عمله: أي أن يكون أكبر من أي شخص وأي شيء، وأن يستمر في الوجود عرضياً حتى ولو فنيت الحضارة. وإلا، فسيكون البتكوين قد فشل في النهاية للأسباب نفسها التي أدت إلى فشل العملات السابقة له مثل البلايندد كاش والإي غولد: فكل مركز هو نقطة عطل مفردة، وكل نقطة عطل مفردة تؤدي إلى انعدام الوثوقية. وانعدام الوثوقية، خصوصاً في القطاع المالي، هو ثغرة في النظام. أما الأنظمة الموزعة، من الناحية الأخرى، فقد برهنت على أنها تتمتع بالوثوقية بطبيعتها، وهو ما ثبتت صحته من خلال تجربة البلوكتشين على مدى العقد الماضي من الزمن، وأيضاً من خلال الأنظمة الموزعة الأخرى مثل نظام التورنت torrents وبنية مايكرو سيرفس Microservice الخاصة بالويب إلى حد ما. لكن مؤسسات الأعمال مركزية بطبيعتها، فضلاً عن أن وجود نظام يتمتع باللامركزية ظاهرياً لكنه محكوم بمركز في الوقت نفسه يعني أنه في الحقيقة مركزي تماماً (مثال: بنية مايكرو سيرفس الخاصة بالويب). وعليه، لا تستطيع مؤسسات الأعمال الادعاء بأن أي خدمة تنشئها أو تُبقي عليها أو تشغلّها أو تديرها أو تحقق الأرباح من ورائها على البلوكتشين هي خدمة غير قائمة على الثقة، وأنها تتمتع باللامركزية والوثوقية والأمان فعلياً. فالأمان الذي تتمتع به البلوكتشين مرتبط في واقع الأمر بمدى أمان و/أو صلاحية مركزها المتمثل في مؤسسات الأعمال نفسها. لكن عوضاً عن تقديم الخدمات من مؤسسات الأعمال إلى المستهلك مباشرةً Business-to-consumer، تقدم لنا تقنية البلوكتشين بديلاً أفضل من مؤسسات الأعمال نفسها: نظام النظير إلى النظير.

لا بأس، يمكن فصل الأرباح عن الأعمال

مع أن ساتوشي ناكاموتو قرر الاختفاء عن الأنظار في عام 2013، ولم يساهم البتة في نمو البتكوين الذي ابتكره، فإنه قد جمع ثروة طائلة من وراء ابتكاره نموذج أعمال التوكن المرتبط بالخدمات بمحض الصدفة. ولمّا كان ساتوشي أول معدّن للبتكوين، فهو لم يواجه صعوبة تُذكر في تعدينه، وحصل على مكافآت تعدين طائلة من وراء ذلك. وبحسب التقديرات، يمتلك ساتوشي اليوم مليون بتكوين؛ أي أن ثروته وقت أن بلغت أسعار البتكوين ذروتها كانت تقدّر بـ19 مليار دولار أميركي. لكن مع أن البتكوين كان مشروعاً مربحاً على غير العادة لساتوشي، لم تكن هناك شركة للبتكوين قط.

هذه الظاهرة تكررت مرة أخرى مع مؤسس منصة الإيثريوم Ethereum البالغ من العمر 24 عاماً، فيتاليك بوتيرين؛ إذ أنه هو الآخر يمتلك مبالغ طائلة من عملة الإيثريوم (ETH) صل إلى قيمتها إلى مئات الملايين من الدولارات الأميركية في أعلى مستوياتها. ومع أن عملية تطوير البلوكتشين الخاصة بمنصة الإيثريوم نفسها كانت مدارة من قبل مؤسسة سويسرية غير هادفة للربح تدعى مؤسسة الإيثريوم Ethereum Foundation، فقد سارت أغلب مشاريع البلوكتشين التي تحظى بنجاح ساحق اليوم على منوال مشابه. مثل هذه المشاريع تبرهن على أنه يمكن فصل الأرباح عن الأعمال التجارية أحياناً، وأنه من الممكن تحقيق الأرباح من وراء تقديم خدمة مستقلة خالصة للجمهور دون أن تتولى أي مؤسسة أعمال الإبقاء عليها أو تحقيق الأرباح من ورائها إلى الأبد.

هذا المقال مترجم عن تدوينة رائد الأعمال المصرى نور هريدي، ويمكنك الأطلاع علي النسخة الأصلية من هنا

إخلاء المسؤولية: الآراء والتحليلات والأخبار الواردة لا تعكس رأي بت شين. لا ينبغي اعتبار أي من المعلومات التي تقرأها على موقع بت شين بمثابة نصيحة استثمارية، ولا تصادق بت شين على أي مشروع قد يتم ذكره أو ربطه في هذه المقالة. يجب اعتبار شراء وتداول العملات المشفرة نشاطًا عالي المخاطر. ويرجى بذل المجهود الواجب قبل اتخاذ أي إجراء يتعلق بالمحتوى المذكور ضمن هذا التقرير. لا تتحمل بت شين أي مسؤولية في حالة خسارة الأموال في تداول العملات المشفرة.