نشر موقع “هارفارد بيزنيس ريفيو” تقريراً ربط في العلاقة بين تقنية بلوكتشين وتأثيرها على النظام بتأثير الإنترنت على الإعلام منذ ظهور الشبكة العنكبوتية. فحتى بعد مضي سنواتٍ من ظهور الإنترنت، ظل كثيرون يعتقدون أنها ظاهرة عابرةٌ. ولكن بالطبع، تحولت الإنترنت لاحقًا إلى أمرٍ مهمٍ جدًا في حياتنا اليومية، نعتمد عليه لدفع المال وشراء البضائع والخدمات، والتواصل الاجتماعي مع الأصدقاء، كما لعبت دورًا رئيسيًا في اندلاع ثورات الربيع العربي، والانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة سنة 2016.

خلال سنوات التسعينيات، كانت ردود الأفعال في الأوساط الإعلامية ساخرةً، عندما توقع نيكولاس نيغروبونتي أننا في المستقبل سوف نقرأ الأخبار من مواقع الإنترنت وليس من الصحف الورقية التقليدية.

وبعد مرور عقدين من الزمن، هل نحن بصدد مشاهدة تحولٍ مفاجئٍ قد تحدثه العملات الرقمية وتكنولوجيا البلوكشين؟ بالتأكيد يوجد الكثير من نقاط التشابه. فعلى غرار الإنترنت، ترتكز العملات الرقمية مثل البيتكوين على التقدم التكنولوجي الكبير في العديد من المجالات، والإقبال على الاعتماد على هندسة الشبكات المفتوحة مثل البلوكتشين.

تمامًا مثل الإنترنت، فهذه التكنولوجيا مصممةٌ لتكون لامركزيةً، وتحتوي على طبقاتٍ متعددةٍ، كل منها محددةٌ ببروتوكولٍ مفتوحٍ قابلٍ للتشغيل المتبادل وساري المفعول على الشركات والأفراد، ويمكن الاعتماد عليه لبيع السلع والخدمات.

وتمامًا مثل الإنترنت، نجد في المراحل الأولى من تطوير التقنية الجديدة العديد من التكنولوجيات المنافسة، لذلك وجب تحديد ما هي تكنولوجيا البلوكتشين التي نتحدث عنها. ومثل الإنترنت، تصبح تكنولوجيا البلوكشين أقوى عندما يستخدم الجميع نفس الشبكة، لذلك سوف نتحدث كلنا في المستقبل عن “بلوكتشين واحدةٍ”.

وفي مختلف طبقاتها، استغرقت الإنترنت عقودًا من الزمن لتتطور، حيث أن كل مرحلةٍ من التطور التقني فتحت الباب أمام فرصٍ هائلةٍ من النشاط الاقتصادي والابتكار.

في المراحل الأولى، وحدت تقنية “إيثرنت” الطريقة التي ترسل بها أجهزة الحواسيب البيانات عبر الأسلاك، وكانت شركاتٌ مثل 3COM قادرةً على بناء إمبراطوريات فوق شبكاتها، بمنتجات تبديل الشبكة. وقد تم استخدام بروتوكول TCP/IP للسيطرة على كيفية توجيه البيانات بين مختلف الحواسيب.

كما قامت شركة “سيسكو” بصناعة أجهزة “راوتر”، مستفيدةً من هذا البروتوكول. وبحلول مارس/ آذار 2000، كانت “سيسكو” أغلى شركةٍ في العالم. وفي سنة 1989، طور تيم بيرنرس لي بروتوكول http، وهو بروتوكولٌ آخر مفتوحٌ وآمنٌ، وبذلك فسحت مواقع الواب المجال لظهور شركات مثل “إيباي”، وغوغل، وأمازون.

 

التطبيق الرائع لتكنولوجيا البلوكشين

هناك فارقٌ واحدٌ مهم: لم تكن الإنترنت في بدايتها موجهة لأهدافٍ تجاريةٍ، حيث تم تطويرها أساسًا من خلال ميزانية وزارة الدفاع الأمريكية، واستخدمت للربط بين مختلف معاهد البحث والجامعات. ولم يكن هذا الابتكار مصممًا لكسب المال، بل لتطوير أقوى وأفضل شبكة الاتصال. لقد كان هذا الغياب الواضح للعوامل والدوافع التجارية في البداية هاما، حيث أنه سمح بإنشاء هندسة شبكةٍ تمكن من تشاطر المصادر بطريقة لم تكن لتحدث في نظامٍ موجهٍ نحو السوق.

لقد كانت خدمة الرسائل الإلكترونية، التطبيق الرائع الذي صنع نجاح الإنترنت في البداية، حيث أنها دفعت الكثير من الناس للدخول إلى الشبكة والمساهمة في تعزيزها. على نفس النحو، تعد البيتكوين التطبيق الرائع للبلوكشين، حيث أن هذه العملة الرقمية تدفع الناس لتبني التكنولوجيا التي تستند إليها، وهي البلوكتشين، كما أن مجتمع المهندسين والخبراء التقنيين الذين يقومون بمراجعتها ويشرفون على عمليات التشفير يجعلونها الأكثر أمانًا وموثوقيةً من بين مختلف شبكات البلوكتشين.

على غرار الإيميل، سوف يحافظ نوعٌ واحدٌ من البيتكوين على وجوده في المستقبل، فيما ستدعم البلوكتشين مجموعةً متنوعةً من الاستخدامات الأخرى، من بينها العقود الذكية، وتسجيل الممتلكات، والكثير من التحويلات التي ستتجاوز الاستخدامات المالية والقانونية.

يمكننا أن نتوصل لفهمٍ أفضل للبيتكوين كنموذجٍ أوليٍ، من طريقة عمل النظام المالي بشكل جديدٍ، لامركزيٍ، وآليٍ. ورغم قدراتها المالية الآن، إلا أنها لا تزال محدودةً (على سبيل المثال، كمية البيانات التي يتم إرسالها لا تزال محدودة مقارنة بأنظمة الدفع الإلكتروني الأخرى). مع ذلك، تقدم هذه التكنولوجيا رؤيةً جذابةً للمستقبل، لأن عملية التشفير التي تقوم عليها يمكن أن تصف الجوانب الاقتصادية وأيضا القانونية.

على سبيل المثال، يمكن أن تشترط التحويلات المالية استيفاء مجموعةٍ من القواعد قبل أن يتم قبولها داخل البلوكشين الخاصة بعملة البيتكوين. وعوضًا عن كتابة هذه القواعد وتعيين مشرفٍ أو مراقبٍ لرصد الإخلالات، وهي الطريقة التي يعمل بها النظام المالي حاليا، فإن شيفرات البيتكوين هي التي تضع القواعد، بينما تتكفل الشبكة بمراقبة مدى التزام مختلف الأطراف بها.

أما إذا تم في إحدى التحويلات خرق القوانين (مثلا إذا كان الإمضاء الرقمي غير صحيحٍ)، ترفض هذه العملية برمتها من قبل الشبكة. وحتى السياسة المالية لعملة البيتكوين، تكون مكتوبة في عملية التشفير، حيث يتم إصدار أموالٍ جديدةٍ كل 10 دقائق.

إن هذه العملية محدودةٌ ومقيدةٌ، حتى لا يكون هناك أكثر من 21 مليون بيتكوين متاحة، وهي قاعدة صارمةٌ للحفاظ على عامل الندرة، تماما مثل الذهب (وهذا يعني خلق نظامٍ يكون فيه وجود هذه العملة محددًا سلفًا ولا تتحكم فيه الأطراف المشرفة).

لكن، لا يعني ذلك أن الخيارات التي توفرها البيتكوين حاليا كاملةٌ. في الواقع، يختلف الكثير من خبراء الاقتصاد مع قاعدة ندرة المال التي تفرضها البيتكوين. كما يرى المحامون أن تنظيم الأمر عبر التشفير فقط يفقد هذه العملة مرونتها، ولا يترك أي مجالٍ لحرية التصرف في سياقاتٍ ضروريةٍ.

ما لا يمكن الجدال بشأنه، هو أن البيتكوين هي أمرٌ حقيقيٌ، وهي تحقق النجاح. فالناس يمنحون البيتكوين قيمة اقتصادية حقيقية، من خلال المنقبين الذين يحافظون على استمرار عمل البلوكشين الخاصة بهذه العملة، أما مقدمو المحفظات، الذين يكتبون البرمجيات التي يستخدمها الناس لتحويل البيتكوين، يلتزمون جميعهم بنفس القواعد ودون أي استثناءاتٍ.

لقد حافظت البيتكوين على صلابتها أمام الهجمات، وهي تقدم نظام دفعٍ بسيطٍ، ولكن صلبٍ في نفس الوقت. وتبدو هذه الفرصة لتوسيع نطاق استخدام البلوكشين من أجل إعادة تشكيل النظام المالي برمته، مخيفةً وفاتنةً في نفس الوقت.

 

المبالغة والاستعجال؟

لسوء الحظ، تبدو وفرة المستثمرين في التقنيات المالية سابقةً للتطورات في مجال التكنولوجيا. فنحن غالبا ما نشاهد شبكاتٍ تسمي نفسها بلوكتشين ولكنها ليست فعلًا مبتكرةً، بل مجرد قواعد بيانات كانت موجودة منذ عقود، وتطلق على نفسها هذه التسمية فقط لإثارة الانتباه والالتحاق بالركب.

لقد كانت هناك العديد من الأطراف المتنافسة قبل أن تسود الإنترنت، حيث سعت شركات الاتصالات والقنوات التلفزيونية المشفرة لتقديم وسائط متعددةٍ وتفاعليةٍ عبر شبكاتها، ولكن هذه المحاولات باءت بالفشل ولم تستطع جذب الانتباه الكافي لترسُخ في الأذهان.

في الوقت الحالي، قد نكون بصدد مشاهدة نفس المحاولات فيما يخص تكنولوجيا البلوكتشين؛ إذ يبدو المشهد الحالي خليطًا من محاولات المؤسسات المالية التقليدية لتطوير خدماتها وأساليب عملها، ومحاولات مجموعةٍ من الشركات الناشئة التي تحاول البناء فوق البنية التحتية الموجودة سلفًا، على أمل أن تنجح في فرض نفسها كخيارٍ دائمٍ، وتضع حدًا للمنافسة.

في حالة العملات الرقمية، نحن نشهد الآن استثمارات ضخمةٍ جدًا ومخاطراتٍ برأس المال، أكثر مما شاهدناه مع الإنترنت خلال المراحل الأولى لتطويرها. ويجعل هذا الاهتمام المبالغ فيه من قبل المستثمرين والشركات العملة الرقمية مختلفةً بشكلٍ جوهريٍ عن الإنترنت، لأن هذه العملات لم تحظ بعقودٍ من الغموض النسبي، ولم تنشأ لأغراض غير تجاريةٍ حتى يتاح لها المجال للتطوير، وتخضع التجارب، وإصلاح الأخطاء، وإعادة الهندسة.

يؤكد هذا أهمية العمل الذي نقوم به في مبادرة العملة الرقمية داخل مخابر “ميديا لاب”: الذي يعد من الأماكن القليلة التي تُبذل فيه جهودٌ جبارةٌ للعمل على التكنولوجيا والبنية التحتية الخاصة بها، بعيدًا عن الدوافع والمصالح المالية، وهذا عاملٌ مهمٌ جدًا.

يبدو النظام المالي الحالي معقدًا جدًا، وهذا التعقيد يخلق المخاطر. لذلك، قد يكون هذا النظام المالي الجديد، الذي يمتاز باللامركزية، وتعرضه علينا العملات الرقمية، أكثر بساطةً، وقد يغنينا عن طبقاتٍ من الأطراف الوسيطة. وقد يساعدنا هذا على تأمين أنفسنا ضد المخاطر. ومن خلال تحويل الأموال في عدة وجهات، يمكن أن يفتح هذا الباب أمام أنواعٍ مختلفةٍ من المنتجات المالية.

يمكن أن تفتح العملات الرقمية طريق المال والنجاح أمام الأشخاص الذين يعانون حاليًا من الإقصاء، وتزيح العديد من العراقيل، وتفسح المجال للمنافسة المفتوحة. كما يمكن للمشرعين أن يعيدوا صياغة النظام المالي عبر إعادة التفكير في أفضل الطرق لتنفيذ الأهداف السياسية دون التخلي عن القواعد الأساسية.

كما يمكن أن تكون أمامنا فرصة لخفض المخاطر النظامية: حيث أن المستخدمين والمشرعين على حد السواء يعانون أحيانا من الغموض وغياب الشفافية. وتظهر الأبحاث أن جعل النظام المالي أكثر شفافية يحد من تدخل الأطراف الوسيطة ويخفض من التكاليف.

 

الانحراف عن الطريق

إن الاستخدام الأول وحتى المبادئ التي حملها مستخدمو التكنولوجيات الجديدة والبنية التحتية، تتغير بشكل جذري بينما تنضج هذه التكنولوجيات. وهذا سينطبق بالتأكيد على تكنولوجيا البلوكتشين. في البداية، لقد صنعت البيتكوين كرد فعلٍ على الأزمة المالية لسنة 2008. وكانت لدى المجموعة المؤسسة لها توجهاتٌ ليبيراليةٌ ومعارضةٌ للسلطة، وكانت تتبنى ثقافة البرمجيات الحرة، بقيمها المعارضة للاستغلال المالي.

وعلى غرار نظام التشغيل “لينوكس”، الذي يستخدم الآن في تشغيل كل التطبيقات والخدمات التجارية، فإن العديد من استخدامات البلوكشين يمكن أن تصبح في نهاية المطاف خدمةً مدفوعة الثمن تعتمد عليها كبرى الشركات والحكومات المركزية.

وبنفس الطريقة، يرى الكثيرين أن تكنولوجيا البلوكتشين والتقنيات المالية مجرد تكنولوجيا جديدة لإيصال الخدمات، وربما شيء يشبه الأقراص المضغوطة والمدمجة. وعلى الأرجح أن تأثير البلوكتشين على النظام المالي والقوانين والتشريعات يشبه إلى حدٍ كبيرٍ ما فعتله الإنترنت بشركات الإعلام ومؤسسات الدعاية.

يمثل ذلك إعادة هيكلةٍ كاملةٍ لجزء أساسي من الاقتصاد، وهو تحدٍ كبيرٌ للشركات الناشطة حالياً في هذا القطاع. ويعني الاستعداد لهذه التغييرات الاستثمار في الأبحاث والتجارب. أما أولئك الذين يبادرون بهذا الأمر فسوف يجدون أنفسهم في مكانةٍ تؤهلهم للازدهار والنجاح في النظام المالي الجديد.

إخلاء المسؤولية: الآراء والتحليلات والأخبار الواردة لا تعكس رأي بت شين. لا ينبغي اعتبار أي من المعلومات التي تقرأها على موقع بت شين بمثابة نصيحة استثمارية، ولا تصادق بت شين على أي مشروع قد يتم ذكره أو ربطه في هذه المقالة. يجب اعتبار شراء وتداول العملات المشفرة نشاطًا عالي المخاطر. ويرجى بذل المجهود الواجب قبل اتخاذ أي إجراء يتعلق بالمحتوى المذكور ضمن هذا التقرير. لا تتحمل بت شين أي مسؤولية في حالة خسارة الأموال في تداول العملات المشفرة.