لقد كانت البيتكوين فكرة ذكية، وتميزت بالمثالية، على الرغم من أنها الآن لا تعمل بالطريقة التي وضعت لها في البداية. ما إن يتم تعدين كل العملات المتوفرة، ستؤدي البيتكوين ببساطة إلى تقوية النظام البنكي الذي ابتكرت في الأصل للتصدي له.

لقد كانت مشاهدة ظاهرة البيتكوين تشبه إلى حد كبير مشاهدة ثلاثة عقود من تراجع دور الإنترنت، التي تحولت من فضاء حر للثقافة المضادة، إلى مجال لاستثمار وسيطرة رؤوس الأموال. وقد كنا في البداية نأمل في أن الإنترنت سيضع حداً للاحتكار الذي تمارسها وسائل الإعلام. إلا أنه بسبب تلاقي المصالح التجارية وسيطرتها على دوافع الناس، باتت الإنترنت مجرد وسيلة لتوصيل خدمات البث التلفزيوني للمستهلكين، وجمع بيانات هؤلاء المستهلكين لفائدة الشركات.

وبنفس الطريقة، فإن البيتكوين كان مقصوداً بها كسر احتكار النظام البنكي للعملات النقدية والائتمان. ولكن في النهاية، يبدو أن البيتكوين ستتحول إلى مجرد منصة أخرى للبنوك الكبيرة للقيام بنفس عمليات الاحتكار وجني الأرباح التي تقوم بها في العادة. وإليكم كيف سيتم هذا الأمر.

 

جوهر البيتكوين

تمثل البيتكوين في جوهرها مجرد امتداد لبروتوكول التشفير الخاص القديم “بي جي بي”. حيث يتم استخدام مفاتيح خاصة وعامة لحماية هويات كل الأطراف المتدخلة في عمليات التحويل، والتأكد من صحتها. هذه العمليات في حد ذاتها تتم المصادقة عليها من قبل الآلاف من مستخدمي الإنترنت، الذين يؤكدون صحتها من خلال كل الدورات التي تقوم بها أجهزة الحاسوب الخاصة بهم، والكهرباء التي يتم استخدامها أثناء التشغيل.

وفي مقابل تخصيص أجهزتهم وطاقتهم للمصادقة على هذه التحويلات، وتسجيلها في دفتر حسابات يعرف بالبلوكتشاين، فإنهم يحصلون في المقابل على مكافأة في شكل بيتكوين. وعملية التثبت هي التي تعتبر تنقيبًا عن قطع بيتكوين جديدة وخلقها من العدم. وكلما امتلك هؤلاء المزيد من البيتكوين، سيصبحون أكثر التزامًا بالحفاظ على مصداقية البلوكتشاين التي تسجل فيها أرصدتهم.

تعد البيتكوين مجرد نقود أنشأها وينشئها ويمتلكها المهووسون بالإنترنت والتشفير، بناء على الاعتقاد بأن هؤلاء المهووسين بالإنترنت في النهاية سيتجاوز عددهم عدد من لا يؤمنون بهذه الفكرة. ومن المؤكد أن بعض الأطراف السلبية يمكن أن تخصص كل جهدها وطاقتها للقيام بتحويلات مالية مزيفة، إلا أن هؤلاء سيطغى عليهم عدد الذين يريدون أن يعمل هذا النظام بشكل صحيح.

وبالنسبة لأكثر الناس طموحاً، فإن الهدف من البيتكوين هو توفير شكل من التحويلات المالية، التي تحافظ على سرية الهوية، وتمتاز باللامركزية، وغير قابلة للتحيل والتزوير، لتكون بذلك بديلا عن العملات المالية التي تصدرها البنوك بشكل مركزي وهادف للربح، وهي التي تسيطر الآن على اقتصاد العالم.

 

الفاعلية والاستقلالية

ولا تتعلق العملات الرقمية فقط بمسألة زيادة الفاعلية، بل بالقضاء أيضًا على النخبة المتحكمة في الاقتصاد، والتي تستخدم نفوذها على الأوراق المالية للحفاظ على ثروتها وسلطتها.

إذ أن العملات النقدية المركزية ليست الشكل الوحيد من الأموال التي وجدت في هذا العالم. لعقود عديدة، كان الذهب وبقية المعادن الثمينة تستخدم كنقود. إلا أن المشكل مع الذهب يتمثل في ندرته وقيمته العالية، ما جعل الناس لا يرغبون في صرفه في أعمالهم اليومية لشراء أشياء بسيطة مثل الخبز والدجاج.

لكن خلال الحملات الصليبية، قررت العديد من المجتمعات الأوروبية الاعتماد على نظام مالي أكثر مرونة في السوق، وهو نفس النظام الذي كان مستخدما في المدن الإسلامية في إسبانيا. وقد كانت أموال السوق لا قيمة لها من الناحية النظرية، تماما مثل شرائح لعبة البوكر أو القسائم التي يتم توزيعها لتبديلها لاحقا بقطعة خبز أو سلة من البيض في نهاية اليوم.

وعلى عكس الذهب، الذي لم يكن مناسبًا للقيام بالمعاملات المالية، بسبب ندرته وارتفاع قيمته، فإن الأموال السوقية أوجدت لغرض وحيد وهو تسهيل المعاملات في السوق، وكانت قيمتها تنتهي بنهاية اليوم، ولا يمكن ادخارها.

إلا أن هذا النوع من النقود كان رائعًا بالنسبة للتجارة، وكل شخص كانت له القدرة على خلق شيء ذو قيمة، مثل صنع الأحذية أو زرع الحبوب، أصبحت لديه الآن طريقة لتبادل تلك القيمة مع الآخرين. وقد أدى استخدام أموال السوق إلى خلق الثروات على امتداد قرن أو اثنين.

وقد تحول الفلاحون البسطاء تحت النظام الإقطاعي القديم إلى تجار ينتمون للطبقة المتوسطة، يشتغلون فقط لثلاثة أو أربعة أيام في الأسبوع، وتظهر عليهم علامات الصحة والراحة الجسدية بشكل غير مسبوق في تاريخ الإنسانية، لفترة امتدت إلى حدود ثمانينات القرن الماضي، وهو ما كان يعد علامة على الازدهار الاقتصادي.

 

هيمنة الطبقة الأرستقراطية

ولكن المشكلة كانت أن الطبقة الأرستقراطية، التي لم تقم بخلق القيمة لنفسها على مدى مئات السنوات، بدأت بخسارة مكانتها أمام العامة. وبما أن الفقراء بدأوا بجمع الثروة، أصبح الأثرياء القدامى أقل ثروة بالمقارنة مع من كانوا فقراء.

ولذلك سارع هؤلاء لحظر استخدام النقود، وقاموا باستبدالها بعملة مركزية. هذه العملة المركزية كانت تحتوي في بعض الأحيان نسبة من الذهب في داخلها، ولكنها لم تكن تستمد قيمتها من هذا الشيء، إذ أن أهمية العملة المركزية كانت مستمدة من القانون والسلطة.

وكل شخص يريد إنجاز التحويلات المالية منذ ذلك الوقت، بات مجبرًا على دفع رسوم للملوك والبنوك التابعة للسلطة، من أجل الحصول على امتياز استخدام تلك العملات في داخل ذلك البلد. وكانت كل الأموال مقترضة من الخزينة المركزية، بنسب فائض يحددها الملوك. وكان لزامًا على الناس إعادة تلك الأموال التي اقترضوها، وهو ما جعل هذه العملية تعد بمثابة استغلال فاحش.

أما تجار الطبقة المتوسطة الذين حققوا صعودًا في السلم الاجتماعي خلال القرون الوسطى، فإنهم باتوا غير قادرين على إنجاز التحويلات المالية فيما بينهم، إذ أن الحصول على المال واستخدامه صار باهظ التكلفة. ولهذا عاد هؤلاء التجار لينتموا لطبقة الفلاحين مجددا، وباتت المدن هي المكان الوحيد الذي يوجد فيها مواطن شغل، وسرعان ما ظهر الطاعون وانتشر في كل المنطقة.

وهذا هو النظام الذي نحن عالقون فيه اليوم، حيث أن البنوك المركزية هي التي تصدر العملات، وحيتان التكتلات البنكية تقوم بإقراضه إلى العامة، وتضطلع أيضا بدور التثبت من عملياتنا المالية في مقابل اقتطاع رسوم. وكل مشاريعنا المالية هي في الواقع مجرد شركات تابعة للنظام البنكي الذي يتمتع باحتكار قانوني لأموالنا.

وقد كان الغرض من إنشاء البيتكوين هو قطع الطريق أمام كل هذه المؤسسات الوسيطة وغير الضرورية، وتعويضها بدورات تقوم بها الحواسيب. إذ أن الكلفة المرتفعة لعملية تعدين البيتكوين، إضافة إلى الحدود الاعتباطية التي تم فرضها على العدد الأقصى من البيتكوين الذي سيتم تعدينه، كلها عوامل تجعل التزود بهذه العملة أمرًا محدودًا.

ولكن هذا يعني أيضا أنه عوضًا عن إعادة خلق هذه الأموال السوقية المتقلبة التي ظهرت خلال القرون الوسطى، فإن العملات المتوفرة بكثرة والتي تعمل مثل قسائم الشراء وشرائح لعبة البوكر، أي البيتكوين، ستعيد خلق آليات سوق الذهب، أي أنها تدفع الناس نحو الادخار والمضاربة، وتثنيهم عن القيام بالتحويلات.

وهذا يفسر لماذا لم تعد البيتكوين وسيلة للتحويلات المالية، وباتت أكثر فأكثر هرما من المضاربات، ويفسر أيضا لماذا انتهى الأمر بأوائل مطوري هذه العملة وأوائل المستثمرين فيها إلى أن يصبحوا مليارديرات. إذ أن تفاوت الثروات في عملة البيتكوين يبدو أسوأ مما هو عليه في العملات المركزية التقليدية، حيث أن 4 في المائة فقط من مستخدمي هذه العملة يمتلكون 96 بالمائة من البيتكوين.

وعوضا عن كونها فكرة لكسر احتكار البنوك، تبدو الآن هذه العملة الرقمية وكأنها عبارة عن مجموعة من القراصنة الذين يختطفون القطاع البنكي ويحتكرونه لأنفسهم.

وتجدر الإشارة إلى أن النقود التقليدية لا قيمة لها، بل إنها أكثر سوءا من ذلك، حيث أننا نهدر أموالا طائلة على الآلات، والطاقة الكهربائية، ونحرق الوقود الأحفوري دون سبب وجيه، باستثناء أننا نسعى لإثبات مدى التزامنا بالعملة النقدية.

كما لو أننا لا نمتلك في الأصل ما يكفي من الصعوبات والمشاكل التي تعترضنا في سعينا لإنتاج ما يكفي من الطاقة، لتلبية احتياجات هذه الحضارة الصناعية. فنحن الآن نصرف مليارات الدولارات وملايين الغالونات من الوقود الأحفوري، لإنجاز عمليات توريق رمزية.

ولكن ماذا لو أن سند إثبات قيمة هذه القطعة النقدية لم يكن مبنيًا على شيء مفيد للعالم، بل فقط يهدف لتدمير البيئة التي يعيش فيها الإنسان.

 

البلوكتشين

تبدو الاستخدامات غير المالية لتكنولوجيا البلوكتشين مثيرة للاهتمام، ودافعا نحو الإبداع: إذ أن العقود الذكية سوف تمكن الناس من ابتكار وإنجاز اتفاقات معقدة، دون اللجوء للمحامين. كما أن شركات بأكملها وعمليات مشتركة ضخمة، يمكن الإشراف عليها جميعها وتأمينها عبر مجموعة بسيطة من التعليمات والأوامر التي تتم المصادقة عليها وتشفيرها داخل شبكة بلوكتشين، مثل الإيثيريوم.

ولكن هذه العملية تستوجب كمية كبيرة من الشفرات والطاقة الكهربائية، وهي ربما لا تكون انعكاسًا لقدرة الحواسيب على دعم الاقتصاد، بل انعكاسًا لحالة الأنانية وانعدام الأخلاق التي يتصرف بها الناس في حال عدم وجود هذه الإجراءات والضمانات المشددة.

ولكن حتى لو كانت هذه العملات والعقود تفي بالغرض، فإن السؤال الذي يتغافل عنه الكثيرون الآن، هو حول النهاية التي ستؤول إليها هذه التكنولوجيا. ماذا سيحدث عندما يتم تعدين كل قطع البيتكوين المتاحة؟ إذ أن تحويلات البيتكوين تتم المصادقة عليها من قبل الآلاف من الناس، الذين يكرسون الحواسيب والطاقة الكهربائية لبناء البلوكتشاين. وهؤلاء الناس لا يصرفون كل هذه الأموال كعمل خيري، بل يتقاضون في المقابل قطع بيتكوين. وبالتالي فإن تعدين البيتكوين أو المصادقة على التحويلات هما نفس الشيء.

ما هو الدافع الذي سيجعل الناس حينها يصرفون ملايين الدولارات على الحواسيب والطاقة الكهربائية، إذا لم تكن هنالك قطع بيتكوين سيتم الحصول عليها في المقابل؟

لقد طرحت هذا السؤال على أبرز المستثمرين والمنقبين والباحثين في مجال البلوكتشين، ولا أحد منهم قدم لي إجابة شافية. وأفضل إجابة أمكنهم تقديمها لي هي “سوف نجد حلا لهذا الأمر حين يحين وقته”. (كيف يكون هذا مبررًا مقنعًا لقطاع العملات الرقمية الذي راهن عليه الناس بحوالي ربع تريليون دولار).

لقد تكلمت مع مديري أربع شركات قامت بإصدار عملات رقمية، ويبدو أن لا أحد منهم فكر في كيفية إدارة البلوكتشين ما إن يتم تعدين كل النقود المتاحة، وما سيعنيه ذلك لمستقبل الشركات.

إذًا ما الذي سيحدث فعلاً عندما يتم تعدين كل البيتكوين؟ الناس والشركات الذين يعملون في مجال التحويلات في مقابل الحصول على البيتكوين، سوف يصرون على تقاضي رسوم مقابل جهودهم. وكلما استوجب الأمر المزيد من الحوسبة والطاقة الكهربائية للمصادقة، كلما زادت الرسوم التي يجب على المستخدمين دفعها.

ويبدو أن المؤسسات المالية، مثل البنوك وشركات السمسرة، بدأت هي أيضًا بالسعي للاستفادة من هذه التكنولوجيا، وذلك عبر التسويق لشبكات بلوكتشاين خاصة بها، إلى جانب مجموعة من خدمات المصادقة لأولئك الذين يريدون مواصلة استخدام العملات الرقمية حاليًا.

وبذلك، فإنه عوضًا عن التصدي لممارسات القطاع البنكي الموجود حاليًا والحلول محله، فإن البيتكوين وبقية شبكات البلوكتشاين سوف تندمج داخل هذا النظام الاحتكاري. وهي لن تنهي البنوك ورسوم التحويلات، بل ستعزز هذا الأمر، والأسوأ من هذا أنها ستقوم بذلك عبر إهدار الكثير من العمل الحوسبي والطاقة.

ربما يكون الهدف الأساسي من ابتكار البيتكوين هو إلغاء دور الوسطاء، والتصدي للاحتكار التجاري والعملات المركزية. وعلى غرار الإنترنت، فإن الغرض من هذه التكنولوجيا كان إرساء الثقة بين الناس المتصلين فيما بينهم بشكل مباشر. ولكن جل ما فعلته في الواقع هو تقديم بديل عن الثقة، بطريقة جديدة تعتمد عن الحواسيب عوضا عن وساطة المؤسسات والأشخاص.

وبذلك فإنها لم تصبح طريقة لتعزيز نمط جديد من التجارة والتحويلات المالية، بل انخرطت في نفس أساليب الاحتكار القديمة. وتماما مثلما أصبحت شاشات الحواسيب القديمة مجرد شاشة تلفزيون من نوع آخر، فإن البلوكتشاين ستصبح مجرد أداة أخرى في يد قطاع الخدمات المالية.

إخلاء المسؤولية: الآراء والتحليلات والأخبار الواردة لا تعكس رأي بت شين. لا ينبغي اعتبار أي من المعلومات التي تقرأها على موقع بت شين بمثابة نصيحة استثمارية، ولا تصادق بت شين على أي مشروع قد يتم ذكره أو ربطه في هذه المقالة. يجب اعتبار شراء وتداول العملات المشفرة نشاطًا عالي المخاطر. ويرجى بذل المجهود الواجب قبل اتخاذ أي إجراء يتعلق بالمحتوى المذكور ضمن هذا التقرير. لا تتحمل بت شين أي مسؤولية في حالة خسارة الأموال في تداول العملات المشفرة.