يعتقد رواد العالم الرقمي أن تكنولوجيا البلوكتشين ستحدث ثورة على جميع الأصعدة، ابتداءً من العقود القانونية وحتى طريقة استخدامنا للإنترنت. ولكن المشكل الحقيقي يتمثل في أن الكثير من الأشخاص لم يفهموا بعد ماهية البلوكتشين، ولا يعلمون عنها شيئا باستثناء ارتباطها بالعملة الرقمية البيتكوين، التي تحظى بطلب كبير حاليا في حين تتسم قيمتها المالية بالتقلب. وبالنظر للانتعاشة الحالية التي تشهدها سوق العملات الرقمية، باتت البلوكتشين محل اهتمام كبير.

وفيما يلي نسوق أحد الأمثلة، فقبل بضعة أشهر، قررت شركة للمشروبات في نيويورك تدعى “لونج آيلند للشاي المثلج”، تغيير اسمها ليصبح شركة “لونج بلوكتشين”. وعلى الرغم من أن هذه الشركة تعتزم مواصلة إنتاج أصناف الشاي المثلج ذاتها، إلا أن هذا الاسم الجديد مكنها من رفع قيمة أسهمها في البورصة بشكل صاروخي، وضمن لها أيضا ظهورا مميزا ودعاية كبيرة على غلاف مجلة “فانيتي فير”.

لا تعد هذه الشركة المنتجة للمشروبات، أولى المشاريع التي تستفيد من ربط اسمها بفكرة البلوكتشين على الرغم من اعتمادها في الواقع على تقنيات إنتاج بسيطة. فقد ارتفعت قيمة أسهم شركة “سكاي بيبل” لعصير الغلال، التي تنتج مواد غذائية معلبة، بنسبة 215%، بعد أن أقدمت على تغيير اسمها ليصبح “مجموعة المستقبل للتكنولوجيا المالية”، وذلك على الرغم من عدم وجود أي مؤشرات على تبني هذه الشركة لتكنولوجيا البلوكتشين في سلسلة الإنتاج.

 

قرر أحد مصنعي حمالات الصدر الرياضية تغيير اسم الشركة، ليصبح شركة “كريبتو” (التشفير)، وهو ما أدى لارتفاع أسعار أسهمها بشكل سريع قبل أن يتم تعليق التعامل بهذه الأسهم في البورصة بقرار من السلطات الأمريكية.

وقد أدت مثل هذه الممارسات إلى تحويل بعض الأشخاص إلى أثرياء بين عشية وضحاها. في الواقع، عمد أصحاب الشركات الذين يتبنون مثل هذه الاستراتيجيات، إلى سرقة الضوء من مستثمرين آخرين يقدمون فعلا مشاريع واعدة للاستفادة من التكنولوجيا الرقمية، كما أنهم يشوهون صورة التطبيقات التي تعد بتقديم الإضافة وليست مجرد طريقة للتحيل وجني الأرباح كما يعتقد البعض.

 

دفتر الأستاذ دائم

أوضحت الصحفية سالي ديفيز، من صحيفة فاينانشال تايمز، هذا الأمر، قائلة إن “البلوكتشين بالنسبة للبيتكوين تماما مثل الإنترنت بالنسبة للبريد الإلكتروني. تعد البلوكتشين نظاماً إلكترونياً ضخماً، يمكننا من بناء العديد من التطبيقات ضمنه، وفي الوقت الحالي نحن نستغله بطريقة واحدة فقط”.

وتمثل البلوكتشين في جوهرها شيئاً يشبه قاعدة البيانات أو دفتر الأستاذ، الذي يقع في صلبه حفظ البيانات والتحويلات. ولكن عوضا عن الدفتر الذي يكون في شكل كتاب، أو قاعدة البيانات التي يتم تخزينها في خادم خاص (كما هو الحال مثلا مع البنوك والشركات مثل فيسبوك)، يتم توزيع هذه البيانات المحفوظة على شبكات ضخمة ومشتركة.

وفي كتابه تحت عنوان “هجوم الخمسين قدماً من البلوكتشين”، أفاد ديفيد جيرارد، أن “أن بنيته بسيطة للغاية، حيث يمثل دفتراً لمسك الحسابات الذي يمكنك فقط إضافة المعلومات إليه، ولا يمكنك حذف أي شيء أو محوه. علاوة على ذلك، يعتبر هذا النظام محصناً ضد التلاعب، بفضل عملية المصادقة عبر ما يعرف بدالة هاش التشفيرية، وهي سلسلة طويلة من الأرقام المميزة التي تساعد على التأكد من أن البيانات التي تتم مشاركتها صحيحة ودقيقة”.

كما أوضح جيرارد أنه بفضل الطبيعة الشبكية لتكنولوجيا البلوكتشين، سيؤدي إدخال شخص واحد لأي تغيير لوقوع خلل في كامل السلسلة المشفرة. وتتمثل الهندسة الأساسية التي تعتمد عليها هذه التقنية، في عملية حفظ لتحويلات غير قابلة للتلاعب والتغيير، وتكون موجودة في العديد من الأماكن في الوقت ذاته، عوضا عن تخزينها في مكان واحد، وهو ما يجعل هذه الفكرة غير مسبوقة.

على الرغم من الاهتمام العالمي الكبير بعملة البيتكوين، يرى بعض الخبراء أن فقاعة العملات الرقمية ستبدو في النهاية مجرد إلهاء عن المعنى الحقيقي والأوسع لتكنولوجيا البلوكتشن. فمن المرجح أننا سنتبيّن لاحقا أنها تمثل أداة ثورية قابلة للتطبيق في العديد من المجالات، مثل العقود وإدارة تسجيل العقارات ومراقبة البيانات الشخصية.

ومن المفارقات المثيرة للسخرية أن تكنولوجيا البلوكتشين التي تبدو غامضةً بسبب المصطلحات التقنية التي ترافقها، ستؤدي في النهاية لتبسيط العديد من العمليات التي نقوم بها في حياتنا اليومية.

 

شبيهة بمستندات غوغل

من بين الأمثلة التي يتم استخدامها غالبا لتبسيط فكرة البلوكتشين، تشبيهها بمستندات غوغل، التي يمكن مشاركتها بين آلاف أجهزة الحواسيب عبر شبكة الإنترنت، ومواصلة تحديثها وتعديلها بشكل مستمر. ويحيل ذلك إلى أن النسخة الأساسية من هذه المستندات هي في الواقع نتاج للتغييرات التي أدخلت على كل النسخ الفردية الموجودة في مختلف الأجهزة.

وعوضا عن إدخال التغييرات من قبل مختلف الأطراف على نسخ منفصلة من الملف، تتشارك هذه الأطراف في إدخال التغييرات على الملف ذاته، وتظهر كل التعديلات في اللحظة نفسها، مع التنصيص على من قام بهذا التغيير ومتى.

في ظل إتاحة المجال للجميع للقيام بهذه العملية، قد يضفي هذا الأمر فاعلية غير مسبوقة على عملية إبرام العقود القانونية على سبيل المثال، كما من شأنه أن يضيق هامش الخطأ البشري. إضافة إلى ذلك، قد يعمل هذا الأمر على توفير الموارد التي يتم الآن إهدارها في تبادل المراسلات ونسخ الفاكس والملفات بين مختلف الأطراف.

وقد أعلنت الإدارة الوطنية لتسجيل الأراضي في السويد، عن مخططات لاختبار نظام جديد مبني على تكنولوجيا البلوكتشين، يعتقد أنه سيؤدي لتسهيل وتسريع عقود بيع الأراضي ويجعلها أكثر أماناً، مقارنة بالطريقة التقليدية المعتمدة حالياً، المتمثلة في حفظ العقود على الورق، وهو ما يتطلب استخراج العديد من الوثائق القانونية والاعتماد أيضاً على الرسائل البريدية التقليدية.

 

الهوية الرقمية

تبدو كل هذه الأمثلة واعدة جدا، ولكن رواد تكنولوجيا البلوكتشين، يعتقدون أن القيمة الحقيقية لهذا الابتكار ربما يكمن في قدرته على منح الأفراد فرصة امتلاك هوياتهم الرقمية.

في هذا الصدد، كتب ستيفن جونسون في صحيفة نيويورك تايمز، أنه “اليوم تبدو هويتك الرقمية مبعثرة في عشرات المواقع أو ربما المئات منها، حيث يمتلك أمازون بيانات بطاقتك الائتمانية وتاريخ عمليات الشراء التي قمت بها، في حين يعرف فيسبوك أصدقائك وعائلتك، كما تعلم وكالة إيكيفاكس كل شيء عن قروضك ووضعك المالي”.

ولكن بفضل البلوكتشين، قد يصبح امتلاكك للسيطرة والسيادة التامة على بياناتك الشخصية أمرا ممكنا. فعوضا عن قيام عمالقة التكنولوجيا مثل فيسبوك بتخزين بياناتك في خوادم خاصة، ستتم أرشفة كل التحويلات والبيانات بكل أمان في قاعدة بيانات مستقلة ومشتركة، وهو ما يقوض بشكل تام احتكار عمالقة التواصل الاجتماعي للمعلومات.

يمكنكم تخيل مستقبل يمكنكم فيه التحكم في بياناتكم الشخصية، في حين تكونون أنتم فقط المخولين لتغييرها أو حتى كشفها مقابل مبلغ مالي، عوضا عن قيام عمالقة التواصل الاجتماعي بذلك. بالنسبة لمن يؤمنون بهذا الطموح، لا يعد الارتفاع المشهود الآن في قيمة عملة البيتكوين، إلا أمرا تافها مقارنة بما ستحققه تكنولوجيا البلوكتشين في المستقبل.

إخلاء المسؤولية: الآراء والتحليلات والأخبار الواردة لا تعكس رأي بت شين. لا ينبغي اعتبار أي من المعلومات التي تقرأها على موقع بت شين بمثابة نصيحة استثمارية، ولا تصادق بت شين على أي مشروع قد يتم ذكره أو ربطه في هذه المقالة. يجب اعتبار شراء وتداول العملات المشفرة نشاطًا عالي المخاطر. ويرجى بذل المجهود الواجب قبل اتخاذ أي إجراء يتعلق بالمحتوى المذكور ضمن هذا التقرير. لا تتحمل بت شين أي مسؤولية في حالة خسارة الأموال في تداول العملات المشفرة.