مؤخراً، أعلنت شركة ناشئة عن مخططاتها للانتقال إلى مصنع ألومنيوم مغلقٍ شمال مدينة نيويورك، للاستفادة من الكهرباء الرخيصة والمتوفرة بكثرةٍ، التي يتم توليدها من نهر سانت لورنس. وعوضًا عن صهر الألومنيوم، تخطط الشركة لاستغلال تلك الطاقة لتعدين البيتكوين.

في العادة، يفترض أن يكون المال وسيلةً لشراء الأشياء، ولكن يبدو الآن أن الاستثمار الأكثر رواجًا في البلاد هو شراء المال. يطرح هذا التسابق نحو الاستثمار في هذا المجال عدة تساؤلاتٍ عما إذا كان سبب تباطؤ وتيرة النمو الاقتصادي خلال السنوات الأخيرة يكمن في انشغال الناس بهذا القطاع الجديد. على الرغم من أن تعدين البيتكوين لا يتطلب جهدًا بدنيًا أو اليد العاملة، إلا أنه يستهلك الكثير من الوقت، والطاقة، ورأس المال، الذي تحتاجه أنشطة أخرى أكثر إنتاجيةً ويعتبرها خبراء الاقتصاد أكثر فائدةً.

قال جيمس ماك أندروز، المدير السابق للأبحاث في بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، “يبدو أن الكثير من البنية التحتية الرقمية التي يتم إنشاؤها الآن، تُكرس لأنشطة تؤدي لانتشار أشياء مثل العملات الرقمية، وهذا أمر سيئٌ وتافهٌ”.

بالاعتماد على مجموعة متنوعة من المعايير، يبدو أن الولايات المتحدة تعاني من مشكلة الإنتاجية؛ إذ أن الاقتصاد يسير بنسقٍ بطيءٍ، فضلا عن أن حوالي 20% من البالغين الذين هم في أوج سن العمل والإنتاج، لا يحصلون على الوظائف ولا يسعون لذلك أصلاً. كما أن الأمريكيين الذين يزاولون وظائفًا لم يعودوا يُقبلون على التفكير في إنشاء شركاتهم الخاصة، وحتى أبسط أشكال الإنتاج تشهد تراجعًا، إذ أن الأمريكيين باتوا أقل إقبالًا على ممارسة الجنس وإنجاب الأطفال.

بالنسبة لبعض خبراء الاقتصاد، هناك أدلة تؤكد أن الأشخاص باتوا ينشغلون بألعاب الفيديو عوضًا عن الذهاب إلى العمل، ويفضلون العالم الافتراضي عن الحقيقي، ويخصصون نصيبا متزايدًا من وقتهم ورأس مالهم ومواردهم الطبيعية للمنتوجات الافتراضية، مثل مواقع التواصل الاجتماعي، والألعاب والظاهرة الجديدة: العملات الرقمية.

 

البيتكوين واستهلاك الطاقة

تعد البيتكوين، وهي أكبر عملة رقمية في الوقت الحالي، من أكبر مستهلكي الموارد الطاقية، لأن قطع البيتكوين الجديدة توزع فيما يشبه بطاقات اليانصيب، حيث يتم شراء كل بطاقة مقابل الطاقة الكهربائية. ويتسابق المنقبون عن البيتكوين من أجل الفوز بهذه القطع النقدية، عبر تقديم أجوبةٍ لمعادلاتٍ رياضيةٍ معقدةٍ. وعوضًا عن حل هذه المعادلات، يستخدم المنقبون أجهزة الكمبيوتر لتقديم سيلٍ من الاحتمالات. وقد يكون هذا الأمر مربحًا جدًا أحيانا، إذ أن كل قطعة بيتكوين تبلغ قيمتها في الوقت الحالي 10550 دولاراً.

ويؤكد المدافعون عن هذه الفكرة، أن الجهد المبذول فيها يستحق العناء. ويصف هؤلاء البيتكوين بأنها عملةٌ عالية القيمة، وسوف يأتي يومٌ يتم فيه تعميم استخدامها، كما يتوقعون استخداماتٍ جديدةٍ أوسع نطاقًا لتكنولوجيا البلوكتشين، وهي نظام سجلاتٍ رقميةٍ تمكن من حفظ ملكية البيتكوين والتثبت من التحويلات المالية.

في الوقت الحالي، يبلغ متوسط سعر قطعة البيتكوين الواحدة 10672 دولارًا، بحسب موقع blockchain.infoo، المتخصص في نشر الأخبار والمعلومات. لكن استخدام البيتكوين يبقى صعبًا، لدرجة أن إدارة واحد من أضخم المؤتمرات التي أقيمت حول هذه العملة، في شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، امتنعت عن قبول البيتكوين كوسيلةٍ للدفع. وتتسم هذه العملة في استخدامها بالتقلب والخضوع للمضاربات، تمامًا مثل الذهب.

مع ذلك، يرى أستاذ الاقتصاد في جامعة جورج مايسون، تايلور كوين، أن التنقيب عن الذهب يعتبر أقل سوءً للموارد، مقارنة بتعدين البيتكوين، لأنه حتى لو فقد قيمته المالية فإنه سيستخدم على كل حال لتعويض الأسنان التي سقطت. وأضاف تايلور، “أما إذا فقدت البيتكوين قيمتها، فلن تعود صالحةً للاستخدام مرةً أخرى”.

كما يعتقد عمدة مدينة بلاتسبورغ الواقعة في ولاية نيويورك، كولين ريد، أن تعدين هذه العملة يمثل مصدر إزعاجٍ عامٍ. فقد تمكنت المدينة سابقًا من الحصول على قدرٍ محددٍ من الكهرباء الرخيصة، في إطار مشروع بناء سدودٍ لتوليد الطاقة على نهر سانت لورنس خلال سنوات الخمسينيات. واليوم، تتسبب عملية التعدين في التهام هذه الموارد الطاقية بنهم، مثل سرب من الجراد الجائع.

ذكر كولين ريد، أن تعدين البيتكوين حاليا يستهلك حوالي 10% من المخصصات الطاقية للمدينة، وهذا يدفع السلطات المحلية في بلاتسبورغ لشراء كمياتٍ إضافيةٍ من الكهرباء من السوق المفتوحة وبأسعار تبلغ 100 ضعف السعر التفاضلي الذي كانت تشتري به في الماضي.

كما قال ريد، وهو أستاذ اقتصاد أيضا، إنه يفضل بيع موارد المدينة من الكهرباء الرخيصة لشركات توظف عددًا كبيرًا من الناس؛ فشركة “مولد رايت للبلاستيك“، التي تصنع أغطية القوارير، تستخدم هي أيضا حوالي 10 بالمائة من موارد الطاقة في المدينة، إلا أنها في المقابل تشغل 200 شخصٍ. أما شركات التعدين، فلا توظف غير حراس الأمن، وشخصٍ واحدٍ يحضر عند وجود خللٍ فنيٍ.

أما ديفد بومان، الذي يصف نفسه بأنه أول منقب عن البيتكوين في مدينة بلاتسبورغ، فأورد “لقد بدأت منذ وقت طويل، وبالتحديد سنة 2014، لقد انطلقت مع مجموعةٍ صغيرة ٍمن أجهزة الحواسيب، والآن لدي 20 جهازًا للتنقيب”.

قبل بضع سنوات، استأجر ديفيد بومان غرفة في مصنع قديم للورق، حيث يقوم بتشغيل الأجهزة الخاصة به على مدار الساعة. وقد وضعت هذه الأجهزة جنبا إلى جنب فوق رفوفٍ حديديةٍ، وهي مزودة بمراوح تدور بعنف للتخلص من الحرارة التي تنتجها أثناء عملها. ومنذ ذلك الوقت، قررت ست شركات أخرى للتعدين الانتقال إلى نفس هذا المبنى.

أفاد بومان، وهو من أصيلي مدينة بلاتسبورغ، بأنه يشعر بالتعاطف إزاء قلق العمدة. إن ديفيد بومان هو الموظف الوحيد في شركته، فضلاً عن أنه ينشغل في الوقت الحالي في دراسة الطب بدوامٍ كاملٍ في جزيرة غرينادا في منطقة الكاريبي. لكن التنقيب عن البيتكوين مكنه من تغطية نفقات دراسته الجامعية، ومصاريف دراسته في كلية الطب.

ولا يرى ديفيد بومان أن هناك خيارات أفضل تقدمها مدينة بلاتسبورغ، حيث قال “إن هذه المدينة في حاجة ماسة لفرص عمل جديدة”. وعلى الرغم من أن شركته لا توظف أي شخصٍ باستثنائه هو، إلا أنه يدفع رسومًا لشركةٍ أخرى تضطلع بتشغيل وصيانة الآلات، وهي بدورها يشتغل فيها موظفٌ واحدٌ.

 

صراع مع الحكومات

يشار إلى أن حكومات دول أخرى دخلت أيضاً في صراع مع الإغراء الذي تمثله العملات الافتراضية. ففي وقت سابق من شهر فبراير/ شباط، أعلنت شركة إينيل، الأكبر في أوروبا في مجال الطاقة، أنها لن تبيع الكهرباء للمنقبين عن العملات الرقمية، متذرعة في ذلك بخوفها على البيئة.

وفي بيانٍ نشرته عبر وسائل الإعلام، ذكرت الشركة المملوكة جزئيًا من قبل الحكومة الإيطالية، أن “إينيل سلكت طريقا واضحاً نحو خفض انبعاثات الطاقة الملوثة، ودعم التنمية المستدامة، لذلك تعتبر الاستخدام المفرط للطاقة من أجل تعدين العملة الرقمية ممارسةً غير مستدامةٍ، لا تناسب النموذج الاقتصادي الذي تلتزم به هذه الشركة”.

في المقابل، أكد بعض المنقبين عن البيتكوين أنهم يثقون في الطاقات المتجددة، ولكن الطاقة التقليدية التي كانوا يستخدمونها كانت ستستخدم في أغراض أخرى على كل حال. وتجدر الإشارة هنا إلى مثال مقاطعة كيبك، التي تعد من أكبر منتجي الطاقة الكهرمائية في العالم. وقد شهد الطلب على الطاقة في هذه المقاطعة تراجعًا نسبيًا، وهو ما دفع بالسلطات للتفكير في تصديرها نحو ولاية ماساتشوستس الأمريكية، التي تسعى في الوقت الحالي لزيادة نصيب الطاقات النظيفة والمتجددة من مجمل استهلاكها للطاقة. لكن تعيد السلطات في كيبك النظر في هذا الخيار، بعد أن تلقت سيلا من طلبات التزويد لشركات التعدين.

تبحث بعض الشركات الأمريكية عن زبائن جددٍ، نظرا لأن الطلب المحلي على الكهرباء يشهد تراجعًا، باعتبار أن بعض قطاعات الصناعة المعروفة باستهلاكها للطاقة، على غرار مصانع صهر الألومنيوم، نقلت أنشطتها نحو بلدان أخرى، فضلا عن أن المنازل تشهد إقبالًا على استخدام المصابيح المقتصدة للطاقة.

وقال روبرت ماكولو، من مؤسسة ماكولو للدراسات والاستشارات في مجال الطاقة في ولاية أوريغون، “إن هذه الشركات تحمد الله على أنه لا يزال هناك طلب على الطاقة التي تبيعها”. كما أن العديد من المدن تبحث عن خلق وظائف جديدةٍ بأي شكل، حتى لو كان ذلك عبر مشاريعٍ توفر فرص عملٍ قليلةٍ مثل تعدين العمل الرقمية.

تبعد بلدة ماسينا، التي يقع فيها مصنع صهر الألومنيوم الذي تم غلقه، حوالي ساعتين عن مدينة بلاتسبورغ. وهي تمتع أيضا بحصة مضمونة من الطاقة الكهربائية الرخيصة، إلا أنها خسرت العديد من المشاريع التي كانت توفر وظائف لسكانها، على غرار مصنع الألومنيوم ومصنعٍ آخر تابعٍ لشركات جنرال موتورز لتصنيع السيارات.

في ولاية نيويورك، تخصص سلطات الكهرباء 490 ميغاوات من الكهرباء منخفضة التكلفة، للاستخدامات الصناعية في بلدات فرانكلين، جيفرسون، وسانت لورنتز، الموجودة كلها في المنطقة الشمالية التي تضم بلدة ماسينا. ويعني التراجع الذي يشهده القطاع الصناعي في هذه المنطقة، أنه يقع استخدام 52% فقط من هذه الطاقة، ولهذا السبب كان المسؤولين في هذه المنطقة سعداء عندما اقترحت شركة تدعى “كوين مينت” تركيز 16 ألف حاسوبٍ في مبنىً قديمٍ لمصنع الألومنيوم.

لقد أخبرت هذه الشركة، التي لا تزال في طور التفاوض من أجل العقود، شركة الكهرباء أنها ستوظف 150 شخصًا. وفي الماضي، كانت الشركات تخلق ما معدله 30.5 فرصة عملٍ مقابل كل ميغاوات من الكهرباء الرخيصة التي تحصل عليها، ولكن شركة كوين مينت الآن تقترح فقط خلق 10 فرص عملٍ على كل ميغاوات. وعلى كل حال، يبقى هذا العرض أفضل من لا شيء في ظل الظروف الحالية.

في هذا السياق، قال رئيس مجلس بلدة ماسينا، ستيفن أوشوغنيسي، “إن خطتنا تتمثل في جلب أي مستثمر يمكننا الحصول عليه، ونحن مستعدون لقبول أي شيءٍ حتى لو كانت وظيفةً واحدةً”.

إخلاء المسؤولية: الآراء والتحليلات والأخبار الواردة لا تعكس رأي بت شين. لا ينبغي اعتبار أي من المعلومات التي تقرأها على موقع بت شين بمثابة نصيحة استثمارية، ولا تصادق بت شين على أي مشروع قد يتم ذكره أو ربطه في هذه المقالة. يجب اعتبار شراء وتداول العملات المشفرة نشاطًا عالي المخاطر. ويرجى بذل المجهود الواجب قبل اتخاذ أي إجراء يتعلق بالمحتوى المذكور ضمن هذا التقرير. لا تتحمل بت شين أي مسؤولية في حالة خسارة الأموال في تداول العملات المشفرة.