ما الذي تمثله لنا العملات الرقمية؟ وسط الجدال الذي لا يتوقف ليلاً ونهاراً، أصبح كثير من الناس لا يعلمون إذا ما كان عليهم اعتبار هذه العملات الثورية بمثابة عدو أم صديق؟ الكاتب والاقتصادي مارتن دفوراك يحاول أي يشرح لنا الموضوع.

لن تتخلى البنوك المركزية والخاصة عن النفوذ التي تحتكره. خلال السنوات الأخيرة وخاصة منذ الأزمة المالية التي جدّت منذ عشر سنوات، أصبحت البنوك المركزية تتولى مهمة طباعة النقود من أجل التخلص من ديونها وتحفيز النشاط الاستثماري. في المقابل، وبمجرد أن تتكلف الحكومة بمهمة طباعة الأموال، نعلم جميعا أن البلدان ستشهد تضخما ماليا فضلا عن أن الكثير من المسائل المالية ستتداعى.

تتمثل القنبلة الموقوتة الحقيقية التي ننتظرها في ارتفاع معدل التضخم بشكل مطرد، فضلاً عن جعل النقد الإلزامي، قانونياً، الوسيلة المقبولة الوحيدة للتبادل. نتيجة لذلك، سيهرع الكثير الأشخاص لامتلاك بعض الأصول الحقيقية مثل الذهب. ومع ذلك، قد يصبح امتلاك الذهب غير قانوني، كما أثبت عبر التاريخ.

تتمثل إحدى الجوانب الإيجابية التي تتعلق بالعملات الرقمية في قدرتها على تحدي هذا النظام النقدي الذي يعد أحد مظاهر العولمة. في الحقيقة، لا يعد نظامنا النقدي قديماً، فقد بدأ يعمل بصفة فعلية خلال سنة 1971 عندما ألغى الرئيس الأمريكي نيكسون “غطاء الذهب”. ومنذ ذلك الحين، باتت العملة العالمية، الدولار، مجرد عملة ورقية يمكن زيادة قيمتها بمجرد الرغبة في ذلك. لكن كان لهذا الأمر عواقب وخيمة على النظام النقدي برمته، حيث لم تعد قيمة العملات الأجنبية مرتبطة بمرساة ثابتة.

خلافاً لعهد غطاء الذهب، الذي كان يفرض بعض القيود على محافظي البنوك المركزية، حيث كان عليهم دائما تحديد قيمة عملاتهم بالاستناد إلى الذهب، أصبح هؤلاء المسؤولين فجأة يمتلكون الحرية المطلقة في وضع السياسات النقدية، فقد انتهى زمن القواعد الصارمة. ويمكن ملاحظة هذا التغير بشكل جلي عند تقييم السياسات النقدية الحالية.

في الواقع، تم خلق النقد الإلزامي من العدم. وفي الوقت الراهن، أصبحت العملات النقدية والورقية تعد من النقد الإلزامي لأن تكاليف التصنيع الخاصة ضئيلة مقارنة بقيمتها الرمزية. أما بالنسبة للقطع النقدية الذهبية، التي تتسم بقيمة مقبولة عموماً، من المحتمل أن يختلف الأمر. على سبيل المثال، يعمل البنك المركزي الأوروبي على طباعة المليارات من عملة اليورو من أجل شراء السندات الحكومية، مما سيؤدي في نهاية المطاف إلى تضخيم قيمة العرض النقدي.

كان إلغاء غطاء الذهب أحد أسباب الأزمة المالية، بعد 40 سنة، لأن الدول تمكنت من تكديس الديون بشكل كبير دون أي عوائق تذكر. ولكن هناك حقيقة أخرى، في المقابل، حيث كان الحفاظ على غطاء الذهب ليتسبب في اتخاذ إجراءات مالية صارمة، التي كانت من بين آثار فترة الكساد الكبيرة التي جدت خلال القرن الماضي.

عموماً، ارتفعت قيمة الأموال المتأتية من الذهب أكثر بكثير من قيمة السلع والخدمات المنتجة. ونتيجة لذلك، برزت حالة من عدم الاستقرار وفقاعات مضاربة ضخمة في العالم أدت إلى الكارثة التي نشبا بحلول سنة 2008. من جهة أخرى، اتبعت السياسة النقدية المتبادلة منذ السبعينيات بعض القواعد الفوضوية، ما دفع البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم للتدخل لتوجيه العملات الخاصة بهم.

وبعد 10 سنوات من الأزمة المالية الأخيرة، أبقت البنوك المركزية  قيمة الفائدة  في مستوى الصفر أو حتى في الجانب السلبي، مدعية أنه من الضروري أن يكون هناك حوافز للاستثمار في الاقتصاد الحقيقي. في المقابل، كان المستثمرون يعيدون وضع المال في صالات القمار، لأن الأنظمة المالية كانت تركز على جني الأرباح على المدى القصير من خلال تغذية فقاعات المضاربة بدلا من تحقيق النمو المستدام.

في المقابل، أوضح الأفراد الذين يدعمون الاستثمار في عملة البيتكوين أنه يمكن الوثوق بهذه العملة لأنه لا يوجد أي طرف يمكنه أن يضخم العرض النقدي بأكمله، الذي يمكن التنبؤ بقيمته والاتفاق عليه. أما بالنسبة للذين يعارضون الاستثمار في العملات الرقمية، فيدعون أنه يمكن توظيف هذا الاستثمار في مجال غسل الأموال، فضلاً عن أنه من الصعب تتبع استخدامات هذه العملات ومن المحتمل أن يُساء استعمالها في مجال الأسلحة والمخدرات…، مع العلم أنه يمكن أن يوظف النقد الإلزامي أيضا في هذه المجالات.

في نهاية المطاف، يمكننا القول إن العملات الرقمية ستصبح بحكم الأمر الواقع، حقيقية على غرار عملية استبدال الذهب بالعملة الورقية المدعومة من قبل الحكومة، مع العلم أن كلا النظامين لا يخضعان لأي قيمة أساسية مثل الذهب. ولكن هناك فرق بسيط: لن تسمح البنوك والحكومة أبدا لأصحاب رؤوس الأموال اللاسلطويين المستقلين بالاستيلاء على مجال اهتمامهم ونفوذهم.

من هذا المنطلق، لسائل أن يسأل كيف يمكنني أن أثق بالأسواق التي يمكن التلاعب بها، وخاصة الأسواق المالية والعملات؟ في الأثناء، تحاول البلوكتشين فتح الباب من جديد أمام الحرية المالية للأفراد، لكنها لن تنجح، على الأقل ليس في المستقبل القريب.

 

البلوكتشين

يعد الأمر المثير للاهتمام بشأن تقنية البلوكتشين، المثيرة للبلبلة، في قدرتها على معالجة المعاملات بصفة آمنة ومباشرة من خلال الشبكة العنكبوتية العالمية دون الحاجة إلى إشراك بعض الوسطاء. في الحقيقة، لا تعد البلوكتشين التكنولوجيا الأساسية للعملات الرقمية فحسب، بل يمكن استخدامها من أجل إبرام العقود، والوصايا، وأوراق وسائق النقل والمبادلات المالية أو أي شيء آخر ذا قيمة مقبولة.

في الأثناء، لا نزال نستخدم اليوم خدمات الدفع المقدمة من قبل وسطاء موثوق فيهم مثل “بوست فاينانس”، و”ويو أس بي”، “وكريدي سويس”، “وفيزا”، فضلا عن”ماستر كارد” “وباي بال”… ومع ذلك، تضمن تقنية البلوكتشين للموردين والمستهلكين الاتصال المباشر والشامل بكل الأطراف ضمن هذه الشبكة دون الحاجة إلى طرف ثالث.

وتستند البلوكتشين على قاعدة بيانات لامركزية، تتوزع على شبكة الند للند من أجهزة الكمبيوتر المشاركة، تسمى أيضا بدفتر الحسابات الرقمي. ويتميز هذا النظام الموزع بأنه لا يمكن السيطرة على غالبية الحواسيب المتداخلة فيه من قبل شخص واحد وهو ما يستبعد إمكانية التلاعب به أو قرصنته. وفي إطار هذه الشبكة، يشارك المنتفعون في قائمة حلول منبثقة من البلوكتشين ويتبعون قواعدها.

وقد كانت عملة البيتكوين النموذج الأول الذي جعل من البلوكتشين تكنولوجيا شعبية، حيث أن استخدام هذه التقنية يعني التخلي عن السيطرة البشرية ووضع ثقتك في نمط حسابي معقد. وبالتالي، تولي ثقتك في الرياضيات لإصدار المال بدلاً من القرارات البشرية. وكما نعلم، قد يصبح البشر فاسدين وفي خدمة مصالح جهات مختلفة.

فهل سيكون تأثير العملة الرقمية على البنوك مشابها لتأثير البريد الإلكتروني على قطاع البريد؟ حيث يكمن التغيير في أنك لن تحتاج  لإذن من البنك لتحويل الأموال بينك وبين الآخرين.

 

اللاسلطوية أم التحرر؟

يمكن توظيف البلوكتشين في خدمة أي صنف من أصناف تبادل القيمة، وليس فقط العملات الرقمية. فعندما يتفق الجميع أن الأرصدة ضمن البلوكتشين صالحة للاستخدام، يصبح  النظام جاهزاً للعمل. والجدير بالذكر أن اللاسلطويين مولعون بالبلوكتشين، ليس فقط لأنها تستند إلى برمجيات مفتوحة المصدر، ولكن أيضاً لأنها تعزز مبدأ عدم الاعتداء. وحتى إن حاول أحد تجاوز هذا المبدأ والاعتداء، لن يستطيع  تغيير أصول الملكيات لأنها بالفعل موجودة ضمن البلوكتشين.

من جهة أخرى، لا تتحكم أي حكومة في هذا النوع من المعاملات، إذ أن الجهة الوحيدة التي تتحكم في هذه المبادلات هو أنت. وقد يفضي هذا الأمر إلى إحداث تأثير جوهري على الحكومات، حيث أنها لا تستطيع جمع الضرائب من الأشخاص الذين ليسوا على استعداد طوعي للدفع. وسيعود القرار الأول والأخير، في نهاية المطاف، إلى السوق الحرة.

وعلى عكس النقد الإلزامي، الذي يقبع تحت سيطرة البنوك، وظف دعاة التحرر المالي أشخاصاً يحصلون على مكافآت معقولة مقابل الحفاظ على أمن النظام. ويجد الكثير من الأشخاص هذا المفهوم جذاباً، حيث لن تتمكن الحكومة من تحديد كيفية إنفاق أموالك.

على العموم، سنشهد مستقبلا على واقع كفاح الحكومات من أجل البقاء، لأنها تدرك أنها لم تعد تمتلك وسائل فعلية لجمع الضرائب. ففي الغالب، تعتمد العملات الرقمية أساساً على البلوكتشين. فهل ستعلن هذه العملات الجديدة بداية عصر اللاسلطوية الجديد؟ وهل سيكون نوعا من العدوان على الدول ذات السيادة؟

تستند العملة الرقمية على المبادئ التحررية، حيث يعارض أنصارها وجود أي لوائح تنظيمية. ومع ذلك، ستعمل الدول على وضع حد لتطور العملة الرقمية من خلال القوانين إذا أحست بأي خطر. وستشمل محاولة الحد من نفوذ هذه العملة، أولاً، حملة إعلامية، يعقب ذلك سن القوانين الضرورية. وقد يكون هذا الأمر بمثابة ضربة مدمرة لعملة غير مستقرة مثل  البيتكوين، حيث سيشعر العديد من مستخدميها بانعدام الأمان، ما سيهدد بانهيار هذه العملة.

في الأثناء، يبدو أن هناك انحرافاً عن الفكرة الأصلية. ففي الواقع، يتمتع المهووسون بهذا المجال بنظرة مختلفة للعالم، حيث يرون أن تمسكهم بالعملة الرقمية يشكل نوعاً من أنواع الفضيلة. ومن خلال عملي مع مطوري البرمجيات في الماضي، اكتشفت أنهم ينتمون ببساطة لكوكب مختلف، حيث لا يعدون على سجية أصحاب الأعمال التجارية من ذوي العقلية الربحية، على الإطلاق. ومن المثير للاهتمام أنه في حال قمت بجمع كلا المجموعتين معا، فيمكن أن تخلق حقبة جديدة هائلة من الحرية والاستقرار وسلطة الشعوب.

في معظم السيناريوهات، يمكن لأبواب الجشع أن تفتح بسرعة لنفاذ الفساد، ليعيد التاريخ نفسه من جديد. وعلى المستوى الكلي، نحن في نهاية دورة اقتصادية. وسواء كان ذلك نظاما سياسيا مثل الشيوعية في القرن العشرين أو نظاما اقتصاديا يقوم على الفائدة المركبة والديون، تنهار هذه الأنظمة كليا كل 70 أو 80 سنة تقريباً.

وفي مثل هذه الأوقات، على وجه الخصوص، لا بد أن نتخلص من مخاوفنا، وأن نمعن النظر في ممارساتنا وعاداتنا، وأن نركز بنيانا صلبا، حيث تكشف الأزمات حقيقتنا الفعلية.

في نهاية المطاف، لا تعتبر البيتكوين حقا عملة بديلة، حيث تتسم الأموال الحقيقية دائما بقيمة جوهرية (مثل السلع) أو تمثل قيمة الدين (مثل النقد الإلزامي) والأوراق النقدية. بيد أن البيتكوين لا تتمتع بتلك القيمة الجوهرية، كما أنها لا تتضمن إلزاماً بالمسؤولية أو التبادل.

وعلى الأرجح، يعد هذا الجانب من الأسباب التي تجعل البعض مولعين بالبيتكوين، خاصة وأن الحكومة أو البنوك لا تدعم العملة الرقمية. ففي الحقيقة، يحبذ هؤلاء الأشخاص عملة البيتكوين لأنها تأتي على شاكلة أصول رقمية مفعمة بطابع ديمقراطي (المصدر المفتوح) وآمن (الشبكة اللامركزية)، في حين لا يكترثون أبدا ما إذا تحولت البيتكوين إلى مال حقيقي.

إخلاء المسؤولية: الآراء والتحليلات والأخبار الواردة لا تعكس رأي بت شين. لا ينبغي اعتبار أي من المعلومات التي تقرأها على موقع بت شين بمثابة نصيحة استثمارية، ولا تصادق بت شين على أي مشروع قد يتم ذكره أو ربطه في هذه المقالة. يجب اعتبار شراء وتداول العملات المشفرة نشاطًا عالي المخاطر. ويرجى بذل المجهود الواجب قبل اتخاذ أي إجراء يتعلق بالمحتوى المذكور ضمن هذا التقرير. لا تتحمل بت شين أي مسؤولية في حالة خسارة الأموال في تداول العملات المشفرة.