سوق من المليارات يعمل فيه الآلاف أو الملايين من الناس دون توجه مركزي في جميع أنحاء العالم، ودون إذن من الحكومات أو تراخيص، وأحياناً ضد توجهات السلطات. هذا ما يحدث بالفعل في سوق الاقتصاد المعتمد علي العملة الإلكترونية  الجديدة البيتكوين، التي انطلقت في المجال الافتراضي في العام 2009 على يد سونتشي ناكاموتو.   

ليس هناك هيكل مركزي، ولا قواعد محددة وضعها أحد بعينه، وتغيير القواعد المعمول بها في هذا السوق يتطلب القبول الشعبي من المستخدمين أصحاب المصلحة، ولا أحد يستطيع عمل التغيير بشكل تعسفي، على الأقل حتى الآن، يبدو الأمر كنموذج جديد للحكم.

كان إصدار النقود ولا يزال دوراً سياسياً تنفرد به الحكومات من خلال البنوك المركزية، فما الأثر الذي يترتب على إصدار أفراد أو مجموعات لا ترتبط بالسلطات الحكومية نقوداً بديلة؟

ربما هذا ما دفع  مفتي الديار المصرية إلى إصدار فتوى غريبة في بداية العام الجاري يحرم فيها التعامل بالعملة الافتراضية الجديدة، معتبرا في فتواه أن “إصدار الاموال  من اختصاص ولي الامر”، وأن إصدار عملات مثل البيتكوين  يعد “افتئاتا علي هذا الحق الاصيل لولي الأمر” أو الحاكم، بحسب الفتوى.

 

من يصدر العملة الجديدة؟

لا تسيطر الحكومات على العملات الإلكترونية ولا تقوم بإصدارها، وإنما يفعل ذلك الأفراد والمجموعات ويخلقون واقعاً جديداً يعتمد على اللامركزية في إصدار الأموال، ولا يمكن تجاهل التأثيرات السياسية التي تصنعها العملات الإلكترونية.

فيمكن للمستخدمين تبادل العملات الإلكترونية من دون  إشراف أو إطلاع الحكومات والبنوك، وأكثر من ذلك يمكنهم خلق النقود بأنفسهم من خلال الاتفاق على طرح عملة إلكترونية جديدة باستخدام معادلات رياضية وبرامج تقوم بحلها.

 

الرياضيات بديلا عن الحكومات

ويعتمد البيتكوين على الرياضيات بدلاً عن  الحكومات والسلطات، فالبلوك شاين الذي تعتمد عليه العملة الجديدة هو سجل رقمي مشترك لجميع المعاملات التي يتم تبادلها في أي وقت على الانترنت.

وتحتوي كل معاملة على سجل تشفير (سلسلة تبادل) مختلفة، ويقوم مجتمع المستخدمين بعملية التحقق، بينما يعمل المستخدم الأول على تعدين العملة نفسها ليحصل على مكافآته منها.

الفكرة الجديدة هنا أن هذه الشبكة الموزعة تختلف جذرياً عن نظام التعامل النقدي التقليدي قبل العملات الإلكترونية المشفرة.

 

مقاومة خفية

“الحكومة وضعت من أجل الصالح العام؛ من أجل حماية الشعب وأمنه وازدهاره وسعادته؛ وليس للربح أو الشرف أو المصلحة الخاصة لأي رجل أو عائلة أو فئة من الرجال؛ ولذلك، فإن الشعب وحده له حق لا يقبل الجدل، غير قابل للتصرف، ولا يمكن إبطاله في إقامة الحكومة؛ وإصلاحها أو تغييرها أو قلبها تماماً، عندما يتطلب حمايته وسلامته وازدهاره وسعادته”. هذا ما ينص عليه دستور ماساتشوستس،  في الجزء السابع منه.

ولكن الواقع الذي فرضته العملات الجديدة ربما يفرض سؤالا عن دور الحكومات الآن إزاء هذه العملات  الحرة البعيدة عن الرقابة. هل تمنعها؟ وهل تستطيع أن تفعل ذلك إذا أرادت؟  

الواقع يقول إن مؤسسة النقد السعودية “ساما“، التي تعد بمثابة البنك المركزي السعودي حذرت مواطنيها، في يوليو/تموز من العام 2017، من التعامل بالبيتكوين، متعللة في ذلك بأنها لا تعد عملة لأن معظم دول العالم لم تعترف بها.

ولكن ساما عادت بعد ذلك وقالت في أكتوبر/تشرين الأول من العام 2017، إن السعوديين يمكنهم  التعامل بالبيتكوين في المنصات الخارجية.

وإذا كانت السعودية لا تستطيع منع مواطنيها من التعامل بهذه العملة، فإن دولة مثل الصين مثلا تستطيع التحكم في التعامل بالبيتكوين، وبحسب تقارير صحفية فإنها تخطط لوقف التعامل به عبر إجراءات تتعلق بمراقبة الإنترنت.

وقد بدأت حملة في الصين لوقف التعامل بهذه العملة الافتراضية.

 

طبعها سياسي

ولذلك لا يمكن اعتبار البيتكوين مجرد عملة اقتصادية، فالعملات الخفية سياسية بطبعها، لأنه لا توجد حكومة تستطيع التحكم فيها، ولا مصادرتها مثل أشكال الثروة الأخرى التي يمكن للحكومات مصادرتها بطرق قانونية أو تعسفية.

فبفضل التشفير أصبحت العملات تحكم بالرموز فقط، مما يجعلها أشبه بعقد رقمي مقدس.

وفيما يصف البعض البيتكوين بالفقاعة الافتراضية، يراه البعض ثورة رقمية، حيث تبدو البيتكوين والعملات الإلكترونية كأداة مقاومة سياسية واقتصادية تهدد احتكار الحكومات لخلق المال والثروة، وتهدد كذلك سلطات الأمن والمراقبة، رغم كونها أكثر شفافية وانفتاحاً من غيرها من العملات.

ولأن النقود الورقية والمعدنية في طريقها لتصبح من الماضي، بعد توسع المعاملات الإلكترونية وكروت الدفع المقدم والائتمان مثل ماستر كارد وفيزا، وطرق الدفع الإلكتروني للفواتير وتحويل الأموال عبر الحسابات البنكية، تبدو العملات الإلكترونية المشفرة الجديدة كحل أكثر ثورية للخروج من زمن النقد، وحماية الثروات والخروج من التبعية للحكومات والبنوك والمصالح السياسية التي تمثلها.

 

بديلاً تكنولوجياً

يوجد عادة ما يكفي من الأموال في السوق، ولكن البنوك المركزية التابعة للدولة هي التي تتحكم في المعروض النقدي.

وحتى طرق الدفع المالي مثل الفيزا هي شركات وليست أفضل حالاً بكثير.

لكن حينما يدخل البيتكوين وغيره من العملات الإلكترونية للمشهد فإنه يوفر بديلاً تكنولوجياً للعملة يدعم الفردية والخصوصية واللامركزية والإرادة الفردية الحرة.

وبالنسبة للبيتكوين، هناك كبار المالكين للعملة أو “الحيتان” الذين يشكلون مصدر قلق كبير بالنسبة للمستثمرين؛ إذ بإمكانهم التأثير على الأسعار والتسبب في هبوطها بشكل حاد في حال بيعهم ولو لجزء بسيط من حصتهم الكلية من هذه العملة.

ويقول أرون براون، المدير العام ورئيس قسم أبحاث السوق المالية السابق بشركة “أي كيو آر كابيتال” لإدارة الاستثمارات: “يمتلك حوالي ألف شخص 40 بالمائة من البيتكوين، وقد يدفعهم ارتفاع الأسعار إلى بيع حوالي نصف حصصهم من البيتكوين”.

كما يستطيع هؤلاء الحيتان تنسيق تحركاتهم فيما بينهم أو معاينتها مع فئة محددة من الأشخاص.

 

المراقبة من السلطات

ويعد بيتكوين مختلفاً كثيراً عن أنظمة الدفع الأخرى، مثل “باي بال”  أو دفع آبل، فهذه الخدمات توفر فقط واجهة حاسوبية أكثر ملاءمة للحسابات البنكية وبطاقات الدفع، لكن البيتكوين يختلف عن نظام التعاملات النقدية التقليدي بالكامل، فهو غير مرتبط أساساً بالنقود الورقية أو بالهيئات التي تدير تلك  النقود.

فيمكنك عبر البيتكوين إرسال واستقبال أي مبلغ من المال لأي شخص أو مكان في العالم، وهذا بالطبع يحمل معه مخاطر تسهيل الجريمة والإرهاب والتجارة غير المشروعة كالمخدرات والأعضاء البشرية والسلاح غير القانوني.

ولا يمكن تجميد محافظ البيتكوين أو حظر الدفع والتعامل، على خلاف الحسابات المصرفية والبنكية وطرق تحويل الأموال المعتادة، فلا توجد شركة أو حكومة أو بنك تقوم بالإشراف أو المراقبة.

لكن خبيراً في العملات المشفرة يقول إنه سيكون من الممكن في المستقبل، الكشف عن هوية الأشخاص الذين يقومون بمعاملات من خلال العملة المشفرة التي يفترض أن تكون مجهولة، مع تطور أدوات وتكنولوجيا المراقبة التي تستخدمها السلطات.

 

دستور البيتكوين البديل

تحمي العملات الإلكترونية نفسها ضد سيطرة أي شخص أو مجموعة صغيرة على قاعدة البيانات بأكملها، وتوفر تقنيات التشفير الخاصة بها جدار حماية ضد مراقبة الحكومات أو هجوم الهاكرز ولصوص الهوية، وهو ما  يشبه الدساتير السياسية التي تحمي خصوصية وهوية المواطنين.

ويشكل البيتكوين كذلك مسحة (لا سلطوية) تحررية، لا توفرها العملات الرقمية. فهي فرصة لتوزيع الثروة بإنصاف بين المتعاملين، وكسر هيمنة محتكري العصر الرقمي (محتوى الإنترنت)، كما يقول ناشطون يناهضون مركزية السلطة ويسعون لنماذج ملكية أكثر انفتاحاً وتحرراً.

ويطرح البيتكوين حسب هؤلاء النشطاء رؤية ليبرالية، “لا دولتية”، مناهضة لاحتكار المعلومات وتجاوزات الرأسمالية، وفي الوقت ذاته لا تبدو معارضة للقانون.

ويقول نشطاء العملات الإلكترونية إن المشرعين ينبغي أن يصروا على امتلاك الجميع “الحق في مخزن بيانات خاصة”، حيث يستطيع المواطنون الحفاظ على هويتهم الإلكترونية، ولا يجب أن تخضع لمراقبة الحكومات أو إشرافها فهي تعتمد على “البلوك شاين” والمصادر المفتوحة.

ومنطقياً، سيتطلب مخزن البيانات الخاصة ذلك، جهداً حقيقياً من فريق عمل، يؤسَس كمشاعٍ فكري، ويموله مضاربو العملات الرمزية، وتدعمه الدولة.

إخلاء المسؤولية: الآراء والتحليلات والأخبار الواردة لا تعكس رأي بت شين. لا ينبغي اعتبار أي من المعلومات التي تقرأها على موقع بت شين بمثابة نصيحة استثمارية، ولا تصادق بت شين على أي مشروع قد يتم ذكره أو ربطه في هذه المقالة. يجب اعتبار شراء وتداول العملات المشفرة نشاطًا عالي المخاطر. ويرجى بذل المجهود الواجب قبل اتخاذ أي إجراء يتعلق بالمحتوى المذكور ضمن هذا التقرير. لا تتحمل بت شين أي مسؤولية في حالة خسارة الأموال في تداول العملات المشفرة.