ليس مفاجئاً أن يكون الكتاب المفضل لنك كارتر هو كانديد، الرواية الساخرة التي كتبت في عصر التنوير في فرنسا. يروي الكتاب قصة رجل ساذج يواجه مصاعب الحياة الواقعية. وبنبرة تحمل نقداً لاذعاً لروح التفاؤل التي سادت ذلك العصر يطرح الفيلسوف فولتير في كانديد سؤاله “إذا كان هذا هو أفضل العوالم الممكنة، فما عساها إذن أن تكون العوالم الأخرى؟” 

كارتر ليس شخصاً ساخراً رغم اسهاماته في هذا الصدد، وهو واحد من أكثر نقاد العملات المشفرة صرامة. تنامت شهرته مع تزايد شعبية العبارة القائلة “البلوكتشين وليس البتكوين”، أي الفكرة القائلة بأن سجلات البيانات الموزعة هي الحل لكل شيء ابتداء من مشكلة الجوع وصولاً إلى علاج السرطان. لكن كارتر ليس مقتنعاً بأن تقنية البلوكتشين تبشر ببزوغ عصر يوتوبي جديد. 

إذا كانت هذه أفضل سجلات البيانات الممكنة، فما عساها إذن أن تكون كل السجلات المزيفة؟

في ختام أكتوبر/تشرين الأول نلنا الفرصة لإجراء حوار مع كارتر حول آخر عمليات الاحتيال في المجال ومخاطر الصيرفة الاحتياطية الكسرية وليبرا وتأثيرات البقاء بعيداً عن العالم الواقعي لمدة طويلة. 

نك، تعرضت العملات المشفرة لهجمات من أماكن كثيرة هذا العام، من الدول والإعلام بدرجة ما، خصوصاً بعد وفاة جيرالد كوتن التي تسببت بخسارة ملايين الدولارات للمستثمرين معه. أعني، لم قد يثق بها أي أحد؟

تمثل قصة كوتون دراسة حالة ممتازة. القصة التي صدقها الناس لم تكن هي القصة التي وردت في التقارير. راودتني شكوك كثيرة تجاه القصة الأصلية، التي تقول إن هذا الشخص فقد بعض المفاتيح. فقد أدار في الأساس منصة تداول قائمة على الاحتيال. فجوهر القصة يكمن في الصيرفة الاحتياطية الكسرية وكيف تنهار الأمور بسرعة حين يعتقد الناس أن منصة تداول ما لا تملك احتياطياً كافياً. في تلك اللحظة سيهرع الجميع إلى المصرف. لهذا أطالب دائماً بضرورة وجود إثبات على الاحتياطي. على منصات التداول أن تنشر شهادات دورية بما لديها من احتياطي. يجب أن تكون قضية كوادريغا حافزاً في هذا الاتجاه. لكن لا أحد يهتم، لم يكن الأمر متعلقاً بأمن البتكوين أو الوصاية عليها، فقد انهارت المنصة لأن صاحبها كان محتالاً. لسبب ما لا يطالب الناس بإثبات على الملائمة المالية من منصات التداول، أو على الأقل لا يفعلون ذلك بنفس القوة التي يسائلون بها البنوك. 

هل تعتقد أن هذه الظاهرة تمثل خطراً منهجياً يهدد الصناعة؟ هل يمكن لمنصات التداول أن تمارس نشاطها وهي مفلسة في الحقيقة؟

أخمن أن لا منصة من كبريات منصات التداول الغربية تعاني الإفلاس. كوادريغا كانت الوحيدة على الأرجح، لأن كوين متركس بذلت جهدها في تقييم حجم التداول مقابل عدد البتكوين في الميزانية العمومية (ورغم أنها ليست طريقة علمية تماماً، فإن النسبة بين حجم التبادلات وحجم الودائع يمثل “إثباتاً بالاحتياطي” يدلل على أن حجم التداول لا يتجاوز حجم الأصول الموجودة في البلوكتشين). نعلم أن أرقام الودائع وسيلة فعالة في العموم، لكن بعض منصات التداول التي تحاول تجاوز منافساتها في السوق قد تجد لديها دافعاً لتكذب أو تغش. بعضها مفلس بلا شك. هناك المئات من منصات التداول على مستوى العالم، حفنة قليلة منها هي التي تحقق معايير رخصة بتلايسنس في نيويورك، ما يعني أنها ستواجه عواقب وخيمة إن أخفقت. 

هل تعني أن التراخيص التي تصدرها وزارة المالية في ولاية نيويورك كانت مفيدة حتى الآن؟

هذا مجرد بديل، بل يضعنا أمام مفارقة. فإذا كانت 80% من كل البتكوين في العالم محفوظة لدى منصات التداول الخاضعة للرقابة الحكومية، أي أن تكون مضمونة من قبل المؤسسة الاتحادية للتأمين على الودائع، فسنحصل في النهاية على نفس النموذج الذي يقوم عليه النظام المصرفي. لذا إن اعتمدنا على منصات التداول التي تضمنها الحكومة بشكل أو آخر فستكون لدينا إمكانية إنقاذ منصات التداول في حال إخفاقها. وسيصير لدينا تضخم خفي، وسنجد أنفسنا مجدداً أمام النظام المصرفي نفسه. مما يعني أننا لم نحقق الكثير. لهذا أفضل الشفافية المطلقة بدلاً من التنظيم الحكومي. فعلى منصات التداول أن تثبت للمودعين أنهم في مأمن، بدلاً من أن تواجه مطرقة الحكومة في النهاية. ماذا حدث في هذا العام أيضاً؟

ليبرا.

أجل، يبدو أن هذه هي القصة الأهم هذا العام. ما يثيرني حقاً في هذه القصة هو أن الكونغرس انزعج كثيراً من ليبرا، وأعتقد أن السبب الأهم لذلك هو محاولته تسجيل نقاط سياسية. أعتقد أن فيسبوك أخطأ في حساباته، فقد اعتقدوا أنهم يوصلون رسالة مفادها أنهم يؤسسون عملة عالمية. سيكون لدينا هذا الاحتياطي وسنملأه بكل هذه العملات الأجنبية وبعض الدولارات. بالتأكيد سيزعج هذا الأمر الكونغرس. لأن ما يقرب من 70% من التجارة العالمية تتم بالدولار. لذا سيرغبون في أن يكون هذا الاحتياطي مليئاً بالدولارات. كان بإمكان فيسبوك أن تسلك مساراً وطنياً وتقول إن احتياطي ليبرا سيكون مليئاً بالدولارات وربما 10% منه ستكون بالفرنك السويسري. أي أننا بذلك نصدر الدولار إلى الخارج ونساعد في تمويل الحكومة. وسيكون الأمر مربحاً للولايات المتحدة وللخزانة الأميركية. وسيكون المشروع سبباً آخر من أسباب صعود الدولار حول العالم. وسيكون بإمكانهم الاستمرار في بيع سندات الخزانة الرخيصة وما إلى ذلك. 

لكنهم لم يفعلوا ذلك وسيواجهون العواقب. 

الأمر الآخر الذي أجده مسلياً، أن كل من في الكونغرس، لسبب ما، لم ينتبهوا إلى خطر العملات المشفرة أو العملات غير السيادية، إلا حين الإعلان عن ليبرا. لكن بتكوين ظلت على الساحة لعشر سنوات ولم تثر قلقهم. هم يقللون من شأن بتكوين. حين ظهر وزير الخزانة ستيفن منوشن في برنامج سكواك بوكس Squawk Box تحدث عن البتكوين في سياق الحديث عن ليبرا. أعتقد أنهم لا يدركون أن مشروعاً مستقلاً غير مرتبط بالشركات يمكنه أن يصير مالاً صالحاً للتداول. أو ربما استسلموا لرسائل بعض الأشخاص مثل نائب الكونغرس وارن ديفيدسون (ممثل أوهايو) الذي قال إن البتكوين لا يمكن السيطرة عليها ويجب أن تترك وشأنها.

الشيء الآخر الذي لا يتحدث عنه أحد هو الريبل. ريبل ومعامل ريبل هي شركات أميركية وتصدر عملتها الخاصة الريبل (XRP)، وباعوها بكميات كبيرة خلال السنوات الست الماضية. وتجاهلهم المسؤولون بالكامل. لما لم تصلهم رسائل تقول “توقفوا عن فعل ذلك”. أعتقد أن السبب في ذلك أن لا أحد يأخذهم على محمل الجد، لكنهم جادون جداً حين يتعلق الأمر بفيسبوك.

في عام 2018، كنت واثقاً من أن هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية ستشن حملة ضد عدد من مشاريع العروض الأولية للعملات. 

أجل، هذا أكثر ما يشعرني بالخجل. أجل لم يفعلوا ذلك. 

وفي هذا العام أيضاً، رأينا انطلاق عدد من المشاريع، منها تلغرام قبل أيام قلائل، هل تعتقد أن هذا الشبح الذي أرعب صناعة العملات المشفرة لم يكن سوى نمر من ورق؟

كان شبحاً يلوح في الأفق. لا تستثمر شركتنا في أي توكن لهذا السبب، ولأسباب أخلاقية عديدة. لا أحب السر القذر لهذه الصناعة وهو أن الشركات المجازفة تجد لها مهرباً من التوكنات عبر بيعها لجمهور المستثمرين المستقلين. ويحصلون على خصم بطريقة أو أخرى. ينظمون الأمر بطرق عدة، لكن الطريقة التي يجنون بها المال هي عبر إثارة الكثير من الصخب حول هذه الأشياء ثم بيعها قبل أن يتضح أنها عديمة القيمة. هذا فعل قذر، لأنه عرض أولي للعملة من شركة ربما تملك إجازة بذلك لكنها لا تملك في الحقيقة ما تقدمه. الأمر كله قائم على التوقع والأمل وليس هناك ما يدل على وجود عائد منتظم أو نمو القيمة لأي من هذه التوكنات. 

أتعلم، لعل البتكوين يعمل وحسب، لكننا لا نعرف كيف نقيمه. وكل بلوكتشين آخر قائم على العقود الذكية، كيف نقيم هذه الأشياء؟ لا أحد يملك إجابة صحيحة. الحقيقة هي أن المستثمرين في هذه الأشياء يعلمون أن مخرجهم منها هو عبر بيع التجزئة، وهو ما يحدث الآن ويجعل الأمر غير أخلاقي في أساسه. حتى الريبل التي تصدر تقارير ربع سنوية تذكر فيها كم باعت من الريبل، هم لم يستطيعوا حتى ذكر الأرقام الصحيحة. بحثت كوين متركس في الأمر ووجدت تناقضات خطيرة بين ما هو موجود على البلوكتشين وما هو وارد في تقارير الكشف يصل إلى 100 مليون ريبل. منذ بداية انخراطي الجاد في المجال، اعتقدت أننا سنشهد غرامات جادة. وسيحظر الفاسدون من الاستثمار في الأوراق المالية والاحتفاظ بمناصبهم في إدارة الشركات. لكن الأمر لم يسر على هذا النحو. وهو ما جعلني أعتقد أننا نتعامل مع هيئة للأوراق المالية والبورصات تخشى المخاطرة ولا ترغب في الخوض في نزاعات قضائية مكلفة، ما لم يكن لديهم دليل ساحق. لكن إذا كان علي أن أخمن، أعتقد أننا سنشهد تحركاً قريباً من هيئة الأوراق المالية والبورصات. 

هل هناك أي مشاريع توكن شرعية؟

لو تحدثنا بمهنية، فنحن صندوق استثماري مجازف. بإمكاننا أن ندعم بناء شركات ناشئة على البلوكتشين الأخرى، وهناك مشاريع صالحة قائمة على البلوكتشين الأخرى. أما بشأن الاستخدام المالي للبلوكتشين أظن أن البتكوين ستنتصر في المستقبل القريب. لكن ستكون هناك سلاسل عقود ذكية أخرى تستمر في النضال وإحداها على الأرجح ستُستخدم استخداماً مفيداً في مرحلة ما. ما زلنا نحاول استكشاف القواعد الأساسية. إدارة الأصول وإدارة المفاتيح، ومنصات التداول وغيرها. الأمر يشوبه الفساد بالتأكيد، وهذا الحال مع خدمات التجار. لكن ما زالت هناك فرصة. في النهاية سنسعد برؤية بعض المشاريع على شبكة لايتننغ، فهناك عدة مشاريع ناشئة تستهدف لايتننغ.

ما رأيك في الفكرة التسارعية Accelerationism؟

أنا مهتم بمشروع الشبكة اللامركزية لكورتس يارفن. فمداره ليس المال، بل المجتمع. لا يقتصر الأمر على امتلاك قطعة أرض بل وضع الأساس لهويتك الشخصية. إذا فكرت في حسابك على تويتر باعتباره قطعة أرض أو عقاراً تطوره وتبذل فيه جهدك، فسيكون بإمكانك تحديد قيمته. في النهاية، أعتقد أن وسائل التواصل الاجتماعي لن تستمر طويلاً. وسنشهد بزوغ مشاريع مثل أوربت Urbit ونماذج اتحادية أخرى مثل ماستودون Mastodon لتنظيم المجتمع الافتراضي. فهي تسمح لك بالتحكم في بياناتك في خادم منزلي. أعتقد متفائلاً أن هذا ما سيحدث في العالم الواقعي يوماً ما. سيكون مخرجاً من الدولة، وستكون لنا دولنا الخاصة. 

تمثل الأشياء اللامركزية، أو على الأقل البتكوين، ثورة وتطوراً فلسفياً في التفكير والمجتمع الإنساني. سماها بعضهم بآلة الحقيقة التي توجد مستقلة عن الدولة. 

لا أعتقد أن البتكوين يمثل نتيجة في حد ذاته، بل هو واحد من أهم الإبداعات الفارقة التي طورناها. أما أول هذه الإبداعات فقد كانت الكتابة، حين اكتشف الإنسان أن بإمكانه ترميز المعلومات عبر حفرها في اسطوانة طينية ومنحها وجوداً مستقلاً. البلوكتشين هو نسخة معقدة من هذا الاكتشاف. أنفر قليلاً من مصطلح “آلة للحقيقة” لأنها تذكرني بعبارة “هراء داخل، وهراء خارج”. كما أنه يساء استخدامها في سياقات بعيدة عن البتكوين. ليس هناك ضمانات كثيرة في البلوكتشين. يجب عليك أن تضيف تكلفة حسابية ومادية حقيقية إلى عملية إضافة البيانات إلى السجل حتى تضمن أن المعلومات المسجلة مهمة وتستحق ذلك. 

هناك وجهة نظر تقول إن تقنية البلوكتشين سيئة جداً في إتمام التحويلات البشرية وأنها ستكون مناسبة إذا أصبح كل شيء آلياً وأصبحت الحواسيب تخاطب بعضها البعض. 

أجل، هي نوعاً ما عدائية ضد البشر. حين يتفاعل البشر مع البلوكتشين يمكنهم أي يرتكبوا أخطاء ولو مطبعية. نحن نوعاً ما تعثرنا في هذه التكنولوجيا. كانت حياتنا تتقدم بسرعة نحو الرقمنة. إذا لم يوجد البتكوين كنا سنخترع شكلاً آخر من أشكال النقود الافتراضية. ربما كان أحدهم ليمهد للأمر مثل المال الإلكتروني الذي اخترعه ديفيد تشاوم. لا أدري تحديداً كيف ستستفيد الآلات من عملة قائلة على الآلات. لم أفكر في الأمر. يتحدث الناس عن السيارات الكهربائية التي تدفع المال ليتم شحنها. ما المشكلة التي يحلها البتكوين؟ هي أن الناس لا يثقون بتحويلات بعضهم البعض على الانترنت. أما الآلات فيمكننا أن نبرمجها على الثقة. البتكوين مؤسسة باردة للغاية، هي تشبه الآلة، ولا تمتلك أحاسيس ومشاعر وتتبع فقط مجموعة من القواعد. أفضل مؤسساتنا جميعها مقاومة للطرق وإعادة التشكل. 

هل ستصدر الولايات المتحدة دولاراً رقمياً هذا العام؟ هل تتوقع أن تقدم مزيد من الدول على إصدار عملات رقمية؟

عملية رقمنة العملة ستستمر لأنها تسهم في تحقيق الأهداف الحكومية. فالحكومات ترغب في مراقبة كل تحويل. كما أنها لا يمكنها فرض معدلات فوائد سلبية على النقود الورقية، أليس كذلك؟ هم يريدون حقاً السيطرة الكاملة على كل دقائق الاقتصاد عبر التحكم في إمداد المال. لكن إصدار عملة رقمية سيقضي على البنوك التجارية، ولهذه البنوك مصالح احتكارية وجماعات ضغط قوية للغاية، لذا أشك أن الدولار الرقمي سيصدر في أي وقت قريب. 

في كل الأحوال، لن يضر ذلك البتكوين أو ينفعها في شيء. 

إخلاء المسؤولية: الآراء والتحليلات والأخبار الواردة لا تعكس رأي بت شين. لا ينبغي اعتبار أي من المعلومات التي تقرأها على موقع بت شين بمثابة نصيحة استثمارية، ولا تصادق بت شين على أي مشروع قد يتم ذكره أو ربطه في هذه المقالة. يجب اعتبار شراء وتداول العملات المشفرة نشاطًا عالي المخاطر. ويرجى بذل المجهود الواجب قبل اتخاذ أي إجراء يتعلق بالمحتوى المذكور ضمن هذا التقرير. لا تتحمل بت شين أي مسؤولية في حالة خسارة الأموال في تداول العملات المشفرة.